القرآن الكريم المصحف الإلكتروني إذاعات القرآن صوتيات القرآن أوقات الصلاة فهرس الموقع

حقُّ الحاكم

للحاكم المسلم حقوقٌ على رعيَّته، منها: أن يطيعوه في المعروف ـ ولا طاعة له عليهم في معصية الله ـ وأن يحيطوه بالنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من دون تشهير به أو سمعة ورياء، وأن لا يُنازِعوه على الحكم، أو يخرجوا عليه بالسيف إلا إذا رأوا منه كفراً بواحاً[[١]]، عندهم من الله فيه برهان.

[١] أي صريحاً واضحاً غير متشابه لا يحتمل صرفاً ولا تأويلاً، وقد نص عليه القرآن أو السنة أنه كفر يُخرج صاحبه من الملة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء:٥٩[[٢]].

[٢] أي من كان من ملتكم، ويدين بدينكم، ويعتقد عقيدتكم، أما من كان غير ذلك فلا طاعة له، كما جاء ذلك صريحاً في الآيات التي بعدها. وقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ}؛ هم العلماء والأمراء.

قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} التغابن:١٦.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} آل عمران:١٤٩.

قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} النساء:١٤١[[٣]].

[٣] أي سلطاناً وسيادة تمكنهم من إذلال المسلمين واستئصالهم، ومفهوم الآية أنه لا يجوز للمؤمنين، أن يعترفوا طواعية للكافر بالسيادة والرياسة عليهم، وفي الحديث فقد صح عن النبي "صلى الله عليه وسلم": "لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكُ سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل "[ السلسلة الصحيحة:٣٧١ ]. هذا إذا كان منافقاً؛ فكيف إذا كان كافراً مظهراً لكفره، وكان هذا الكافر حاكماً على الإسلام والمسلمين .. لا شكَّ أنه أولى وأدعى لسخط الرب "جل جلاله".

قال ابن كثير في التفسير: "وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر، لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال "ا- هـ.

فإن قيل: كيف يوفق بين النص، وبين واقع المسلمين في هذا الزمان، الدال على أن للكافرين على المؤمنين سبيلاً؟

أقول: لا يوجد تعارض ولله الحمد؛ إنما تحقيق وعد الله تعالى بأن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، مشروط بشروط وضحتها وبينتها نصوص أخرى؛ وهي أن ينصروا دين الله، ويعتصموا بحبل الله جميعاً، ويجاهدوا في سبيل الله، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. فإن توفرت فيهم هذه الشروط وحققوها في أنفسهم وواقعهم، تحقق وعد الله لهم، وجاءهم النصر.

كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} محمد:٧. مفهوم الآية إن لم تنصروا الله ، لا ينصركم الله ولا يثبت أقدامكم.

ونحو ذلك قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج:٤٠.

وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} النور:٥٥.

وفي الحديث فقد صح عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

رواه أحمد (٤٩٨٧) وأبو داود (٣٤٦٢) وصححه الألباني في صحيح أبي داود

ويُقال كذلك: إن حصل نوع ظفر للكافرين على المؤمنين فإن العاقبة للمتقين ولو بعد حين، كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} هود:٤٩.

قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} التوبة:٣١[[٤]].

[٤] وذلك بطاعتهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله؛ فالمطيع لهم بهذا الوصف مشرك عابد لغير الله، والمطاع الراضي فقد جعل من نفسه نداً للخالق "جل جلاله" في الألوهية والربوبية.

وفي الحديث، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "مَن أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني "متفق عليه.

وعن أُمِّ الحصين، قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إن أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ[[٥]] يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا" مسلم.

[٥] أي مقطوع الأطراف.

وعن معاوية، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "إن السَّامعَ المطيع لا حُجَّة عليه، وإنَّ السَّامِعَ العاصي لا حُجَّة له"[[٦]].

[٦] أي السامع المطيع في المعروف قد أُعذر وقام بالواجب، فلا إثم عليه. أما السامع العاصي فلا عذر له يعتذر به يوم القيامة، يبرر ذنبه وعصيانه، والحجة قائمة عليه. والحديث رواه أحمد، وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: ١٠٥٦.

وعن عبد الله بن عُمر، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من خلَع يداً من طاعةٍ لقي اللهَ يوم القيامة لا حُجَّة له، ومن مات وليس في عُنقِه بيعةً مات ميتةً جاهلية[[٧]]" مسلم.

[٧] أي مات ميتة شبيهة بميتة الجاهلية، حيث أنهم كانوا يموتون وليس عليهم إمام مطاع .. وليس المراد أنه يموت كافراً كما يظن البعض!

وعنه، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "من خرَجَ من الطَّاعة، وفارقَ الجمَاعة، فماتَ، ماتَ مِيتةً جاهليةً، ومَن قاتلَ تحت رايةٍ عميَّةٍ[[٨]] يَغضَبُ لِعَصَبَةٍ، أو يدعو إلى عصبَةٍ، أو ينصرُ عصبَةٍ فقُتِل فقِتْلَتُه جاهلية[[٩]]، ومن خَرجَ على أمتي يَضرِبُ بَرَّها وفاجِرها [[١٠]] ولا يتحاشى من مؤمِنها[[١١]]، ولا يفي لِذي عهدٍ عَهدَه، فليس مني ولَستُ منه" مسلم.

[٨] هو الأمر العمي الذي لا يتبين وجهته؛ وهو كل راية غير الإسلام كالراية القبلية، أو القومية، أو العرقية وغيرها من الرايات والروابط المرفوعة في هذا الزمن التي يُقاتل في سبيلها، والتي تُغيِّب عقيدة الولاء والبراء في الله .. وعقيدة في سبيل الله!

[٩] أي قتلته شبيهة بقتلة الجاهليين، الذين يقاتلون ويُقتلون لعصبية وليس ولاء لله، وفي سبيل الله.

[١٠] أي لا يفرق في بطشه بين الصالح والطالح؛ كما هو حال سلاطين الجور والطغيان حيث يسلم من بطشهم الطالحون المفسدون .. ويقتصر بطشهم وظلمهم واضطهادهم على الصالحين المؤمنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

[١١] أي لا يتورع من أن ينزل ظلمه وجوره بالمؤمنين من أبناء الأمة.

عن ابن عمر، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "السَّمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحبَّ وكرِهَ، ما لم يؤمَر بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعة "متفق عليه.

وعن علي، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا طاعةَ في معصيةِ الله، إنما الطاعةُ في المعروف" متفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "مَن أمركُم من الولاة بمعصيةٍ فلا تُطيعوه"[[١]].

[١] رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، السلسلة الصحيحة: ٢٣٢٤.

وعن النَّواس بن سمعان، قال: قالَ رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق"[[٢]].

[٢] صححه الشيخ ناصر في المشكاة: ٣٦٩٦.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "طاعةُ الإمامِ حقٌّ على المرءِ المسلم، مالم يأمر بمعصيةِ الله "جل جلاله"، فإذا أمرَ بمعصيةِ الله فلا طاعةَ له"[[٣]].

[٣] السلسلة الصحيحة: ٧٥٢.

كما يجبُ على الرعيَّةِ من المسلمين أن تحمي الخليفة المسلم العدل، من كلِّ مَن تُسوِّلُ له نفسُهُ الخروجَ عليه بالسيف، أيَّاً كانت صِفةُ ذلك الخارج، وكانت مُبرراته[[١]].

[١] اعلم أن جميع النصوص ذات العلاقة بطاعة الحاكم، والذود عنه؛ إنما يُراد منها طاعة الحاكم المسلم العدل ـ وفي المعروف ـ الذي يحكم البلاد والعباد ـ وعلى جميع المستويات والسياسات الداخلية والخارجية ـ بالإسلام، ويسوس الدنيا بدين الله تعالى

عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من بايعَ إماماً فأعطاهُ صفقَةَ يدِه، وثمرةَ قلبه، فليُطعه إن استطاعَ، فإن جاء آخرٌ يُنازِعُه[[٢]]فاضربوا عنُقَ الآخر" مسلم.

[٢] أي يُنازعه ـ من غير مبررٍ شرعي يستدعي المنازعة ـ على الحكم والإمارة والخلافة.

وعن عَرْفَجَةَ قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم"، يقول: "إنَّه ستكونُ هنَاتٌ وهنَات[[٣]]، فمن أرادَ أن يُفرِّقَ أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ[[٤]]، فاضربوه بالسيفِ كائِناً من كان" مسلم.

[٣] أي ستكون شرور وفساد .. وشدائد وأمور عظيمة. النهاية.

[٤] أي مجتمعة على رجلٍ واحد.

وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "أذا بُويع لخليفتين، فاقتلوا الآخرَ منهما" مسلم.

وعن عَرْفَجةَ، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من أتاكُم وأمركُم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريدُ أن يشقَّ عصاكم، أو يفرق جماعتَكُم فاقتلوه [[٥]]" مسلم.

[٥] وذلك إن لم يتوقف عن قتاله وفتنته إلا بالقتال والقتل .. ولأن في قتله أهون الشرين.

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لكل غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة يُرفع له بقدرِ غَدْرِه، ألا ولا غادرٌ أعظمُ غدراً من أميرِ عامَّةٍ[[٦]]" مسلم.

[٦] أي من غدر بأمير عامة، وهو الخليفة الحاكم العام للمسلمين. .. وغدره له يكون بالخروج عن الطاعة .. ونقض البيعة بغير موجب شرعي يستدعي ذلك.

الصبر[[١]] على الولاة المسلمين، وإن بدرت منهم بعض المظالم، ما لم ترقَ تلك المظالم إلى درجة الكفر البواح.

[١] المراد بالصبر؛ الصبر الإيجابي وهو عدم الخروج عن الطاعة في المعروف، وهذا لا يتعارض مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يجب أن تقوم به الرعية وبخاصة العلماء منهم نحو السلطان أو الحاكم المسلم الذي تبدر منه بعض المظالم والمخالفات.

عن ابن عباس، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من رأى من أميرِه شيئاً يَكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارَقَ الجماعة شِبراً فماتَ إلا ماتَ ميتةً جاهليَّةً" متفق عليه.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "إنَّكم سترونَ بعدي أثرةً[[٢]] وأموراً[[٣]] تُنكرونها". قالوا: فما تأمرُنا يا رسولَ الله؟ قال: "أدُّوا إليهم حقَّهم وسَلُوا الله حقَّكُم[[٤]]" البخاري.

[٢] أراد أنه يستأثر عليكم، فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء."النهاية".

[٣] أموراً تخالف ما تعرفونه من دينكم.

[٤] أي لا تقابلوا ظلمهم بظلم، ولا السيئة بالسيئة؛ فإن ظلموكم في حقوقكم عليهم فلا تظلموهم في حقوقهم عليكم .. وهذا لا يعني مطلقاً عدم إنكار المنكر والظلم.

وعن نافع، قال: لما خلعَ أهلُ المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشَمَه وولدَه، فقال: إني سمعتُ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" يقول: "يُنصَبُ لكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة"، وإنَّا قد بايعنا هذا الرجلَ على بيعِ اللهِ ورسولِه، وإني لا أعلمُ غدراً أعظمُ من أن يُبايَعَ رجلٌ على بيعِ اللهِ ورسولِه ثم يُنصَبُ له القتال، وإني لا أعلمُ أحداً منكم خلعَهُ ولا بايعَ في هذا الأمرِ إلا كانت الفيصلُ بيني وبينَهُ[[٥]].

[٥] رواه البخاري. قال ابن حجر في "الفتح": وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جارَ في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق ا- هـ.

وعن حُذيفة بن اليمان، قال له النبي "صلى الله عليه وسلم": "تسمعُ وتطيعُ للأميرِ، وإن ضُرِبَ ظهركَ وأُخِذ مالك، فاسمعْ وأطِعْ [[٦]]" مسلم.

[٦] أي فاسمع وأطع السمع والطاعة اللتين تمنعانك من الخروج عن الطاعة العامة .. ومفارقة الجماعة .. ولكن لا تمنعانك من السعي لدفع الظلم عنك .. أو لتحصيل حقوقك .. هذا الفهم للنص هو ما يقتضيه النظر إلى مجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع.

وعن سلمة بن يزيد الجعفي، أنه سأل رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم"، فقال: يا نبيَّ الله أرأيتَ إن قامت علينا أمراءٌ يسألونَ حقَّهم، ويمنعونا حقَّنا، فما تأمُرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله الثالثة، فجذبه الاشعث بن قيس[[٧]]، فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا[[٨]] وعليكم ما حُمِّلتُم" مسلم.

[٧] لما رأى من إعراض النبي "صلى الله عليه وسلم"؛ خشية أن يكون في السؤال ما يكرهه النبي "صلى الله عليه وسلم".

[٨] أي من واجبات ومسؤوليات ومهام .. وكل منكما ـ الراعي والرعية ـ سيسأل يوم القيامة عما استرعاه الله واستأمنه عليه .. هل أدى الأمانة وما يجب عليه على الوجه المطلوب شرعاً أم لا؟

وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، قال: "ألا مَن وليَّ عليه والٍ فَرآهُ يأتي شيئاً من معصيةِ الله[[٩]]، فليَكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يداً من طاعة" مسلم.

[٩] المراد بالمعصية هنا؛ المعصية التي هي دون الكفر البواح.

ومن حديث النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" لحذيفة بن اليمان، قال: "تكونُ هِدنَةٌ على دخنٍ[[١٠]]، ثم تكونُ دعاةُ ضلالة، قال: فإن رأيتَ يومئذٍ خليفةً في الأرض فالزمه، وإن نهكَ جِسمَكَ وأخذَ مالَك[[١١]]، فإن لم ترَه فاهرُب في الأرض[[١٢]]؛ ولو أن تموت وأنت عاضٌّ بجِذلِ شجرةٍ"[[١٣]].

[١٠] أي على فساد واختلاف، تشبيهاً بدخان الحطب الرَّطْب لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر، وجاء تفسيره في الحديث أنه لا ترجعُ قلوب قومٍ على ما كانت عليه؛ أي لا يصفو بعضها لبعض ولا يَنصَعُ حبها . " النهاية".

[١١] أي الزم طاعته الطاعة العامة، وفي المعروف، وفيما قد أصاب فيه .. بحيث لا تخرج من مطلق الطاعة العامة .. وإن نهك جسمك ضرباً وأخذ مالك ظلماً لرجحان المصلحة في ذلك .. لكن هذا لا يمنعك شرعاً من أن تسعى في رفع الظلم عنك وفي تحصيل حقوقك بالوسائل التي لا تؤدي بك إلى الخروج عن الجماعة وعن مطلق الطاعة .. فهي طاعة إيجابية مرشَّدة .. وكذلك هي معارضة إيجابية عزيزة واعية.

[١٢] أي لأن تهرب في الأرض، وتموت غريباً وأنت عاضٌّ بجذل شجرة خير لك من أن تكثر سواد الفرق والجماعات الضالة المبتدعة وما أكثرها في زماننا .. وهذا الهروب والاعتزال ـ هو الخيار الأخير ـ ينبغي أن يُحمل في حال انعدمت جميع السبل التي تمكن من الإصلاح واستئناف حياة إسلامية .. أو حال حصول عجز المرء عن القيام بواجب الإصلاح وواجب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. أو أن يُكثر سواد الطائفة المنصورة المجاهدة الظاهرة بالحق .. هذا ما يقتضيه مبدأ العمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع والتوفيق فيما بينها.

[١٣] رواه أبو دود، وأحمد، السلسلة الصحيحة: ٧٩١.

وعن عبادة بن الصامت، عن النبي "صلى الله عليه وسلم"، قال: "اسمعْ وأطِعْ في عُسْرِكَ ويُسْرِك، ومَنشطِك ومَكرهِك[[١٤]]، وأثرَةٍ عليك وإن أكلوا مالَك وضَربوا ظهرَك"[[١٥]].

[١٤] أي كما تُطيعه وأنت في نشاطك وقوتك، وعلو همتك، تُطيعه كذلك وأنت في فتورك وكسلك، وخمولك وميلك للدعة والاسترخاء والسكون .. وقوله: "وأثرة عليك"؛ أي في حال حرمك ما تستحق من العطايا والمنح، وخص بذلك غيرك ممن لا يستحقون ذلك.

[١٥] رواه أحمد، وابن حبان، وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: ١٠٢٦.

وعن أبي ذر، قال: أتاني رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وأنا في مسجد المدينة، فضربني برجله، وقال: "ألا أراكَ نائماً فيه؟"، فقلت: يا رسولَ الله غلبني عيني. قال: "كيف تصنع إذا أُخرِجتَ منه؟". فقلت: إني أرضى الشامَ؛ الأرضَ المقدسَة المباركَة[[١٦]]، قال: "كيف تصنع إذا أُخرجتَ منه؟" قال: ما أصنع، أضربُ بسيفي يا رسولَ الله، قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ألا أدلُّك على خيرٍ من ذلك، وأقرب رُشداً ـ قالها مرتين ـ تَسمَع وتُطِيعُ وتُسَاقُ كيفَ سَاقوكَ"[[١٧]].

[١٦] أي يتوجه نحو الشام؛ الأرض المقدسة المباركة، وذلك لكثرة ما أثنى النبي "صلى الله عليه وسلم" على الشام وأهله، وشجع الهجرة إليها، والشام تشمل كل من سورية وفلسطين والأردن، ولبنان.

[١٧] رواه أحمد، وابن حبان، وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: ١٠٧٤.

عن وائل بن حجر قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" ورجلٌ سأله فقال: أرأيتَ إن كان علينا أمراء يمنعونا حقَّنا، ويسألونا حقَّهم؟ فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "اسمعوا وأطيعُوا؛ فإنَّما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتُم [[١٨]]" مسلم.

[١٨] قلت: هذا الصبر المشار إليه في الأحاديث أعلاه لا يتعارض ولا يمنع من القيام بواجب نصح السلاطين، وبالصدع بالحق عند الظالمين منهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر .. فهذا شيء وهو أمر محمود شرعاً .. والخروج عن الجماعة والطاعة العامة شيء آخر وهو أمر مذموم ومنهي عنه .. كما بيناه وسنبينه لاحقاً إن شاء الله.

أما إن ظهر منه الكفرُ البواحُ، الذي فيه للأمة برهان من كتاب الله تعالى وسُنِّةِ نبيه "صلى الله عليه وسلم" وأصرَّ عليه، حينها فلا طاعة له البتَّة، ويتعين على الأمة الخروج عليه ويقيلوه ويستبدلوه بحاكمٍ مسلمٍ عدل[[١]].

[١] الذي يستلزم الخروج على الحاكم الكافر دون الحاكم المسلم الظالم الفاسق؛ أن الخروج على الحاكم المسلم الفاسق أشد فتنة وضرراً على الأمة من فتنة بقائه حاكماً وهو لا يزال على فسقه وظلمه، إلا إذا قَدِرت الأمة على إقالته بأساليب أقل فتنة وضرر على الأمة

بينما الخروج على الحاكم الكافر مهما ترتب عليه من ضرر وقتل وقتال فهو أقل ضرر وخسارة من فتنة الرضى بالكافر حاكماً على الأمة

كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} البقرة:١٩١

وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} الأنفال:٣٩

هذا إذا علمنا أن الحاكم إذا ارتد لا يهنأ له بال إلا بعد أن يأطر من يحكمهم إلى ساحته؛ ساحة الكفر والردة، والطغيان والفجور .. ليشاركوه فيما هو فيه .. ويُوافقوه على ما هو عليه .. وليسهل عليه قيادتهم وحكمهم

عن عبادة بن الصامت، قال: "دعانا النبي "صلى الله عليه وسلم"، فبايعناه؛ فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمعِ والطاعة في مَنْشَطِنا ومكرهنا، وعُسرِنا ويُسرنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا نُنازِع الأمرَ أهلَه، إلا أن تَروا كُفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان[[٢]]" متفق عليه.

[٢] أي لا يقتضي الخروج عليه إلا في حالة تلبسه بالكفر البواح الذي عندكم من كتاب الله فيه دليل وبرهان

وعن أمِّ سلمةَ، قالت: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "ستكونُ أمراءٌ، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكرَ سَلِمَ، ولكن من رضيَ وتابَع[[٣]]"، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلُّوا[[٤]]" مسلم.

[٣] أي أن الذنب والوزر يكون على من يرضى بحالهم، ويتابعهم على باطلهم وظلمهم. وهذا دليل على أن عدم الخروج على الحاكم المسلم الفاسق لا يستلزم الرضى بحاله ومتابعته على باطله وظلمه، فالخروج عن الطاعة العامة وبالسيف شئ، وعدم المتابعة في الباطل شيء آخر.

[٤] أي مهما اشتد فسقهم ـ مالم يأتوا بالكفر البواح ـ فإن قيامهم بالصلاة، وأمرهم بها لمن تحتهم من الرعايا، يعتبر مانعاً يمنع من الخروج عليهم بالسيف.

وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، قال: "خيارُ أئمتكم الذين تحبونَهُم ويحبونَكم، وتُصلون[[٥]] عليهم، ويُصلون عليكم، وشرارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونَكُم"، قالوا: قلنا يا رسولَ الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة [[٦]]" مسلم.

[٥] أي تترحمون عليهم وتدعون لهم.

[٦] دل الحديث على أن عدم الخروج عليهم بالسيف، وعدم نزع اليد من مطلق الطاعة .. لا يمنع من لعنهم وبغضهم إذا وجد فيهم شرعاً ما يستدعي لعنهم وبغضهم.

وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "يكون أمراءٌ تلينُ لهم الجلود ولا تطمئنُّ إليهم القلوبُ، ثم يكون أمراءٌ تشمئزُّ منهم القلوبُ، وتقشعِرُّ منهم الجلودُ" فقال رجلٌ: يا رسولَ الله ! أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما أقاموا الصلاة"[[٧]].

[٧] رواه أحمد، وابن أبي عاصم في السنة، وصححه ناصر في التخريج: ١٠٧٧. وقوله: "ما أقاموا الصلاة"؛ أي ما أقاموا في أنفسهم وفيكم الصلاة .. وما لم يظهر منهم الكفر البواح من جهة أخرى غير جهة ترك الصلاة .. هذا ما يقتضيه العمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة.

عن ابن عيينة، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "الدينُ النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابِه، ولرسولِه ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" مسلم.

وعن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "ثلاثٌ لا يغلُ عليهنَّ قلبُ المؤمن: إخلاصُ العملِ لله، والنَّصيحةُ لولاة الأمر[[١]].."[[٢]].

[١] النصيحة لولاة الأمر تكون بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ونصرتهم في الحق، ومنعهم عن الظلم، وإضمار الخير لهم .. وتوقيرهم من غير غلو ولا تملق .. وطاعتهم في المعروف .. وإعانتهم على ما فيه خيري الدنيا والآخرة .. وتعريفهم بموارد الهلكة والنجاة .. وعدم غشهم والكذب عليهم بتزيين الباطل أو تقبيح الحق والفضيلة في أعينهم .. كل هذه المعاني تدخل في معنى مناصحة ولاة الأمر.

[٢] رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: ١٠٨٥.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "ثلاثةٌ لا يغلُ عليهنَّ قلبُ المؤمن: إخلاصُ العملِ لله، والنصيحةُ لولاةِ الأمر، ولزومُ جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيطُ مِن ورائهم"[[٣]].

[٣] رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: ١٠٨٦.

وعن عائشة، قالت: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من ولي منكم عملاً، فأرادَ اللهُ به خيراً، جعلَ له وزيراً صالحاً؛ إن نسي ذكَّرَهُ[[٤]]، وإن ذكَرَ أعانَه"[[٥]].

[٤] أي ذكَّره بما يجب عليه مما قد نسيه، فإن ذكرَ الوالي ما يجب عليه القيام به نحو رعيته وبلده .. أعانه هذا الوزير على ذلك؛ أي أن مهمة الوزير غير مقصورة على التذكير وحسب؛ بل على تذكير الوالي بالخيرا وعلى إعانته على فعله والقيام به أحسن قيام.

[٥] صحيح سنن النسائي: ٣٩٢٠.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "ما مِن والٍ إلا وله بِطانتان: بِطانةٌ تأمرُه بالمعروف وتَنهاهُ عن المنكر، وبطانةٌ لا تَألُوه خَبالاً[[٦]]، فمن وُقِي شرَّها فقد وُقِي، وهو مِن التي تغلِب عليه منهما"[[٧]].

[٦] الخبال هو الفساد؛ أي لا تُقصر ولا توفر جهداً في إفساده، وإفساد الحكم عليه .. وما أكثر هؤلاء في زماننا!

[٧] رواه أحمد، والنسائي، السلسلة الصحيحة : ٢٢٧٠.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "إذا أرادَ اللهُ بالأميرِ خيراً جعلَ له وزيرَ صِدقٍ؛ إن نسيَ ذَكَّرَه، وإن ذَكَرَ أعانَهُ، وإذا أراد اللهُ به غير ذلك؛ جعلَ له وزيرَ سُوءٍ؛ إن نسيَ لم يُذَكِّرْهُ، وإن ذَكَرَ لم يُعِنْهُ"[[٨]].

[٨] صحيح سنن أبي داود: ٢٥٤٤.

وعن أبي هريرة، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "ثلاثةٌ لا يُكلمهم الله يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهم، ولا يُزكيهم، ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ على فضلِ ماء بالفلاةِ؛ يمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايعَ رجلاً بسلعةٍ بعد العصْرِ، فحلف له بالله: لأخذَها بكذا وكذا فصدَّقَه، وهو على غير ذلك، ورجلٌ بايع إماماً لا يُبايعه إلا لِدُنيا؛ فإن أعطاهُ منها وفَى، وإن لم يُعطِه منها لم يَفِ"[[٩]] متفق عليه.

[٩] قلت: كما هو شأن الأنظمة السياسية الوضعية الحاكمة في زماننا فعلاقة المعارضة، والأحزاب، والهيئات، والجمعيات، والعشائر والقبائل مع هذه الأنظمة .. قائمة على مبدأ المساومة والابتزاز، كم يمنحهم النظام الحاكم .. من الحصص والخصائص، والوظائف، والعطايا .. يكون موقفهم من الحاكم ونظامه سخطاً ورضاً، ولاءً وجفاءً، قرباً وبعداً .. لكن هؤلاء ـ في ميزان النظام الإسلامي الرباني قد عدهم ـ من المنافقين؛ الذين لا يُكلمهم الله يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهم، ولا يُزكيهم، ولهم عذابٌ أليم.

وعن محمد بن زيدٍ أنَّ ناساً قالوا لجدِّه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنَّا ندخُلُ على سلاطِيننا فنقول لهم بخلافِ ما نتكلَّمُ إذا خَرجنا من عندِهم[[١٠]]؟ قال ابن عمر: "كنا نعُدُّ هذا نفاقاً على عهدِ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"" البخاري.

[١٠] قلت: كما هو شأن كثير من شيوخ ودعاة هذا العصر؛ إذ تراهم يحرصون أشد الحرص على مخالطة الحكام والسلاطين بحجة أنهم يريدون أن ينصحوهم، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر .. فيدخلون عليهم فيزينون لهم باطلهم وظلمهم .. ويأمرونهم بالمنكر وينهونهم عن المعروف .. فيدخلون عليهم بدين، ويخرجون من عندهم بوجه أو دِينٍ آخر!

عن أبي مَعْمَر قال: قام رجلٌ يُثني على أميرٍ من الأمراء، فجعل المقداد يحثي في وجهِه التراب، وقال: "أمرنا رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" أن نَحثي في وجوه المدَّاحين التراب"[[١١]].

[١١] أخرجه مسلم، والحاكم، وأحمد، صحيح الأدب المفرد: ٢٥٨. قلت: الحديث ينبغي أن يُحمل على من يمتهن مدح السلاطين والحكام والأمراء، وذوي الجاه والشرف، فيقتات ويعتاش بمدحه لهم؛ لذا جاء لفظ الحديث بصيغة المبالغة "المدَّاحين"؛ أي كثيري المدح .. وما أكثر هذا الصنف من المداحين في زماننا .. وهذا يعني أنه لا يجوز أن يُحمل الحديث على من يثني على أخيه المسلم خيراً وبما يعلم فيه، فتنبه.