القرآن الكريم المصحف الإلكتروني إذاعات القرآن صوتيات القرآن أوقات الصلاة فهرس الموقع

حقُّ الصحابةِ

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة:١٠٠[[١]].

[١] هذا نص صريح قد دلَّ أن الله تعالى قد رضي عن الصحابة من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان واقتدى بهداهم، وسار على طريقتهم ممن جاءوا بعدهم

والشيعة الروافض؛ ليسوا ممن اتبعوا الصحابة بإحسان لأنهم يصرحون بكفرهم وشتمهم، وتضليلهم .. ويُضمرون في صدورهم عليهم وعلى من اتبعهم بإحسان الحقد والغيظَ والكراهية ما لا يضمرونه على أحدٍ من العالمين .. ويجعلون ذلك ديناً يُتَديَّن به .. بل من أعظم ما يتدينون ويتقربون به .. فدينهم قائم على الطَّعنِ، والكَذِب، والتَّكذيبِ، وتصديقِ الكذب .. ومعاداة صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل .. وهؤلاء ليسوا بمسلمين؛ لأنهم مكذبون للقرآن الكريم، ورادون لحكمه وشهادته.

قال ابن كثير في التفسير: فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة "رضي الله عنه" فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم، عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟! ا- هـ.

قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} الفتح:١٨[[٢]].

[٢] والذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفاً وأربعمائة صحابي، كما في الحديث، عن جابر، قال: كنَّا يومَ الحديبية ألفاً وأربعمائة. قال لنا النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "أنتم خيرُ أهلِ الأرضِ" متفق عليه. وهؤلاء بنص القرآن الكريم قد رضي الله عنهم، والله تعالى إذ يرضى عن أناسٍ فإنه يرضى عنهم لسلامة دينهم ومنهجهم، واعتقادهم

وبالتالي فإن من يطعن بالصحابة، أو يجرح بعدالتهم، فإنه يطعن بشهادة الله تعالى، وشهادة رسوله "صلى الله عليه وسلم"، ويُكذّب القرآن والسنة .. ومن كذَّب القرآن والسنة، أو طان بشهادة الله تعالى وشهادة رسوله "صلى الله عليه وسلم" في الصحابة الكرام، فهو زنديق كافر؛ ليس بمسلم.

قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} الفتح: ٢٩[[٣]].

[٣] والذين مع النبي "صلى الله عليه وسلم" هم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .. وقوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار}؛ فيه أن الصحابة لا يغتاظ منهم ولا يبغضهم إلا كافر

قال ابن كثير في التفسير: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه ـ في رواية عنه ـ بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك ا- هـ.

قلت: قوله " ومَن غَاظَ الصحابَةَ " كما ورد في الأصل؛ معناه أنه هو الذي أغاظَ الصحابة، وهذا المعنى لا يستقيم، ولعلَّ الصواب " ومَن غاظَهُ الصحابَةُ أو ومن غاظَ من الصحابةِ"، لموافقته لمعنى الآية والمراد منها، والله تعالى أعلم.

وشَطْء الزرع؛ أي فراخه وأولاده؛ وهي بمثابة النباتات الصغيرة التي تنبت حول ـ وقريبة من ـ النبتة الأصل والأم الكبيرة.

قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} التوبة:٦٥-٦٦[[٤]].

[٤] هؤلاء النفر كفروا بعد إيمانهم لطعنهم واستهزائهم بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فعُد طعنهم واستهزاؤهم بالصحابة بمثابة من يستهزئ بالله تعالى الذي رضي عنهم وأثنى عليهم خيراً ..

وبمثابة من يستهزئ بالآيات القرآنية التي تتضمن ذِكر رضى الله تعالى عنهم .. وبمثابة من يستهزئ بالرسول "صلى الله عليه وسلم" الذي رضي عن أصحابه وأثنى عليهم خيراً .. وبلّغ الآيات عن ربه "سبحانه وتعالى" التي تتضمن الثناء الحسن على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

لذا فإن من يطعن أو يستهزئ بالصحابة فهو في حقيقته يطعن ويستهزئ بالله تعالى، وبآياته، وبرسوله "صلى الله عليه وسلم" .. فالحذر الحذر!

عن عمر "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "أكرموا أصحابي، فإنَّهم خيارُكم"[[١]].

[١] رواه النسائي، وأحمد، والحاكم، وصححه الشيخ ناصر في تحقيقه لمشكاة المصابيح: ٦٠٠٣.

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "يأتي على الناس زمانٌ فيغزُو فِئامٌ من النَّاس، فيقولون: هل فيكم مَن صاحبَ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم". فيقولون: نعم. فيُفتَح لهم، ثم يأتي على الناسِ زمانٌ، فيَغزُو فِئَامٌ من الناسِ، فيُقال: هل فيكم مَن صاحَبَ أصحابَ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"؟ فيقولون: نعم، فيُفتَح لهم، ثم يأتي على الناسِ زمانٌ فيغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم من صاحَبَ مَن صَاحَبَ أصحابَ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"؟ فيقولون: نعم، فيُتح لهم" متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: "يأتي على النَّاسِ زمانٌ، يُبعَثُ منهم البَعْثُ فيقولون: انظروا هل تجدون فيكُم أحداً من أصحابِ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"؟ فيوجَدُ الرجُلُ، فيُفتَح لهم به، ثم يُبعثُ البعثُ الثاني، فيقولون: هل فيهم من رأى أصحابَ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"؟ فيُفتَح لهم به، ثم يُبعَثُ البعثُ الثالث، فيُقال: انظُروا هل ترون فيهم مَن رأى من رأى أصحابَ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"؟ ثم يكون البعثُ الرابعُ فيُقال: انظُرُوا هل تَرَونَ فيهم أحداً رأى مَن رأى أحداً رأى أصحابَ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"، فيوجَدُ الرجلُ، فيُفتَحُ لهم به"[[٢]].

[٢] قوله " فيُفتح لهم به"؛ أي فيُفتح لهم به ببركة وسبب وجوده معهم، ودعائه لهم، وما للصحابي من كرامة عند الله تعالى. و " الفئام"؛ الجماعة، أو الجماعة الكثيرة من الناس.

وعن أبي بُرْدَةَ، عن أبيه، قال: رفَعَ ـ يعني النبي "صلى الله عليه وسلم" ـ رأسَهُ إلى السَّماءِ، وكان كثيراً مِمَّا يَرفَعُ رأسَهُ إلى السماءِ. فقال: "النجوم أَمَنَةٌ للسَّماءِ، فإذا ذهَبت النُّجُومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذَهَبتُ أنا أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أمَنَةٌ لأُمَّتي، فإذا ذهَبَ أصحابي أتى أُمَّتي ما يُوعَدون"[[٣]]مسلم.

[٣] " أمنَةٌ"؛ أي أمنٌ، فإذا ذهب؛ ذهب الأمنُ معه، ونزل فيمن افتقده من البلاء والفتن، والبدَع، والشدة ما شاء الله كالحِمى التي تتعرض للسطو والعدوان والانتهاكات بفقدانها الحارس الذي يحرسها ويحميها ومما يدل على هذا المعنى الأحاديث الدالة على أن موت العالم ثَلمةٌ في الإسلام لا تُسد، ومصيبة لا تُجبر؛ وذلك لما يتسبب وفاته من فراغ واضطراب في حياة الناس، وفتنة وفساد وشر لمن تركهم بعده، وبخاصة إن لم يوجد من يخلفه في العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

فقد صحَّ عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناسُ رؤوساً جُهَّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضَلُّوا" متفق عليه.

فالعالِم عنصر أمنٍ في الوجود، وحيثما يحل ويُقيم .. ولكن ليس على طريقة عناصر الأمن التي تحمي وتحرس الطواغيت الظالمين .. فما قولكم إذا كان هذا العالِم المتوفى صحابي من أصحابِ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"!

قال النووي في الشرح ١٦/٨٣: "فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعدون"؛ معناه من ظهور البدع، والحوادث في الدين، والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم وغيرهم، وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته "صلى الله عليه وسلم" ا- هـ.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إذا ذُكِرَ أصحابي؛ فأمسِكُوا، وإذا ذُكِرَ النجومُ؛ فأمسِكوا، وإذا ذُكِرَ القدَرُ؛ فأمسكوا"[[٤]].

[٤] رواه الطبراني، السلسلة الصحيحة: ٣٤.

وقوله " "صلى الله عليه وسلم": "إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسِكُوا"؛ أي إما أن تذكروهم بالخير أو تُمسِكوا ولو ذكرتموهم فلا تتوسعوا؛ فتخوضون فيهم فيما لا ينبغي ولا يجوز فتقعون في المحظور،

وفي هذا الحديث إنكار على من يرتضي لنفسه أن يناظر الروافض الأشرار حول عدالة الصحابة وما يتخلل تلك المناظرات من تجريح واستخفاف، وعبارات نابية بحق الصحابة الأخيار رضي الله عنهم أجمعين وكأن عدالة الصحابة قابلة للطعن والنظر، ومن ثم للنقاش والمجادلات!!

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدَكُم أنفقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهبَاً ما بَلَغ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَه[[٥]]" متفق عليه.

[٥] المُد؛ مكيال يسع لربع صاع؛ والصاع أربعة أمداد؛ والمد حُفنة واحدة بكفَّي الرجل المعتدل الكفين. ونصيفه؛ أي نصفه.

وفي رواية لمسلم: "لا تَسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذهَباً، ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصِيفَهُ"[[٦]].

[٦] تضمنت هذه الرواية زيادة عن الرواية التي قبلها؛ وهي النهي عن سب آحاد أو فرد واحد من الصحابة، فكما أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" نهى عن سبِّ مطلق الصحابة، كذلك فقد نهى عن سب آحادهم أو أحدٍ منهم.

وعن ابن عباس، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "من سَبَّ أصحابي، فعليه لَعنَةُ اللهِ والملائِكةِ والنَّاسِ أجمعين"[[٧]].

[٧] رواه الطبراني وغيره، السلسلة الصحيحة: ٢٣٤٠.

وعن عُويم بن ساعدة، أنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "إنَّ الله تبارَكَ وتعالى اختارني، واختارَ لي أصحاباً؛ فجَعلَ لي منهم وزراءَ، وأنصاراً، وأصهاراً، فمَن سَبَّهم فعليه لعنَةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يُقبلُ منه يومَ القيامَةِ صَرفٌ، ولا عَدْلٌ"[[٨]].

[٨] أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/٦٣٢، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. والصرف؛ النافلة، والعدل؛ الفرض؛ أي لا يُقبَل منهم عمل، سواء كان نافلة أم فرضاً.

وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لي وليَّاَ فقد آذَنْتُهُ بالحَرب[[٩]]" البخاري.

[٩] فإن قيل: ما نوع هذه الحرب التي توعَّد الله بها من يُعادي له ولياً من أوليائه ؟ أقول: الله تعالى أعلم بماهيتها وحجمها فقد يسلط الله عليهم بلاءً كونياً؛ كالزلازل، والأوجاع، والأمراض، والفقر، والقحط وغير ذلك وقد يسلط عليهم عباده المؤمنين المجاهدين فيقتصون منهم لأولياء الله الصالحين أو عدواً لهم من غير المسلمين وقد يفتن بعضهم ببعض؛ فيقتلون ويُحاربون بعضهم بعضاً فلا يجعلهم يهنؤون بعيش، ولا حياة

فكل هذه المعاني تدخل في معنى الحرب المشار إليها في الحديث أعلاه وقد حصل كل ذلك ـ في زماننا المعاصر ـ للروافض الأشرار الذين يُجاهرون بمعاداة وشتم صفوة أولياء الله تعالى من الصحابة الأخيار بعد الأنبياء والرسل ولا يلوموا إلا أنفسهم، لو كانوا يعلمون هذا غير الوعيد الشديد الذي ينتظرهم يوم القيامة ومن أصدق من الله قيلاً وعهداً؟!

وعن عبد الله بن عمر قال: "لا تَسُبُّوا أصحابَ محمَّدٍ "صلى الله عليه وسلم"، فلَمَقامُ أحَدهِم ساعَةً، خيرٌ من عمَلِ أحدِكُم عُمره"[[١٠]].

[١٠] صحيح سنن ابن ماجه: ١٣٣. وقوله "فلَمَقامُ أحَدهِم ساعَةً" أي مع النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" وابن عمر يقول ذلك للتابعين ممن عاصروه، فماذا تُراه يَقول لأهل زماننا، وبخاصة لمن أفلتوا ألسنتهم، فلم يُراعوا حدود الأدب مع أصحاب رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"؟!

وعن عبد الله بن مسعود، قال: "إنَّ الله نظرَ في قلُوبِ العِبادِ، فوجَدَ قلْبَ محمدٍ "صلى الله عليه وسلم" خيرَ قُلوبِ العِباد، فاصطفاه لنفْسِهِ؛ فابتعثَهُ برسالَتِه، ثمَّ نظَرَ في قلوبِ العبادِ بعد قلبِ محمدٍ، فوجَدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العِباد، فجعلَهُم وزراءَ نبيِّهِ، يُقاتِلون على دينِهِ، فما رأى المسلمون حسَنَاً فهو عندَ الله حَسَنٌ، وما رأوا سيئاً فهو عند اللهِ سيئٌ"[[١١]].

[١١] رواه أحمد في المسند " ٣٦٠٠"، وقال الشيخ شاكر في التخريج: إسناده صحيح.

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة:١٠٠[[[١]].

[١] هذه الآية الكريمة من جملة الآيات التي تدل على رضى الخالق "جل جلاله" عن الصحابة من المهاجرين والأنصار، وعمّن اتبع طريقهم وسلك منهجهم واقتدى بهم ممن جاء ويجيء بعدهم، وإلى يوم القيامة .. من كذَّب بذلك لزمه ولا بد تكذيب صريح القرآن الكريم، وهو عين الكفر البواح!

وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الحديد:١٠.

عن أبي الدرداء، قال: كنت جالساً عند النبي "صلى الله عليه وسلم" إذْ أقبلَ أبو بكرٍ آخذاً بطَرَفِ ثوبهِ حتى أبدَى عن رُكبَتِه، فقال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "أمَّا صاحِبُكم فقد غامَرَ"، فسَلّم وقال: إنِّي كان بيني وبينَ ابنَ الخطابِ شيءٌ، فأسرَعتُ إليه، ثم ندِمْتُ، فسألتُه أن يَغفِرَ لي، فأبى عليَّ! فأقبلتُ إليك. فقال: "يَغْفِرُ اللهُ لكَ يا أبَا بكر"، ثلاثا. ثمَّ إنَّ عمرَ نَدِمَ، فأتى منزِلَ أبي بكرٍ فسأل: أَثَمََّ أبُو بكرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" فسَلَّمَ، فجعلَ وجهُ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" يَتمعََّرُ حتى أشفَقَ أبُو بكرٍ، فجَثَا على رُكبَتَيهِ فقال: يا رسولَ الله! واللهِ أنا كنتُ أظلَمُ، مرتين. فقال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "إنَّ الله بعثني إليكُم، فقلتم: كذَبْتَ، وقال أبو بكر: صَدَقَ، وواسَاني بنَفْسِه ومالِه، فهل أنتم تارِكُوا لي صاحبي" مرتين، فما أُوذِيَ بَعدَها. البخاري.

وفي رواية: فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "هل أنتُم تارِكُونَ لي صاحِبِي، هل أنتُم تارِكُونَ لي صاحِبِي، إنِّي قلتُ: يا أيُّها النَّاسُ إنِّي رسولُ اللهِ إليكُم جميعاً، فقلتُم كَذَبْتَ، وقال أبو بكرٍ: صَدَقْتَ"[[٢]]البخاري.

[٢] الحديث أفاد معانٍ عظيمة عدة، منها فضل من سبق في الإسلام، والنصرة، والجهاد على المتأخر بعده، فعمر الفاروق الذي هو هو .. ومع ذلك يقول له النبي "صلى الله عليه وسلم" ولغيره من الأصحاب: "فهل أنتم تارِكُوا لي صاحبي " .. وذلك أن الصديق أبا بكرٍ  "رضي الله عنه" كان الأسبق إلى التصديق، والنصرة، والجهاد!  

وعن أنس، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيامٍ سبَقْتُمونا بها؟! فبلغنا أن ذلك ذُكِرَ للنبي "صلى الله عليه وسلم"، فقال: "دَعُوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنفَقْتُم مِثْلَ أُحُدٍ أو مِثْلَ الجبالِ ذَهباً ما بلَغْتُم أعمالَهُم"[[٣]].

[٣] أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة: ١٩٢٣. قلت: يقول النبي "صلى الله عليه وسلم"  في خالد "رضي الله عنه": "خالدٌ سيف من سيوف الله "جل جلاله"، نِعم فتى العشيرة " السلسلة الصحيحة:١٨٢٦. ومع ذلك لما حصل خلاف بينه وبين عبد الرحمن بن عوف "رضي الله عنه" يُنكر النبيُّ "صلى الله عليه وسلم" على خالد، ويقول له ولغيره ممن تأخر إسلامهم وتأخرت نصرتهم للإسلام عن عبد الرحمن بن عوف: "دَعُوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنفَقْتُم مِثْلَ أُحدٍ أو مِثْلَ الجبالِ ذَهباً ما بلَغْتُم أعمالَهُم "!     أقول: هذا التفضيل ينبغي أن يُراعى عند عملية التلقي والاستدلال؛ فيُقدم قول وفهم واجتهاد السابق من الصحابة على اللاحق المتأخر منهم .. فمراعاة فهم واجتهاد السابق على اللاحق من الصحابة عامل من عوامل الترجيح عند حصول الاختلاف .. للأدلة الواردة أعلاه وغيرها .. وما أقلَّ من يتنبه لهذا المنهج!

وعن مُعَاذ بن رفَاعَةَ بن رافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عن أبيه ـ وكان أبوه من أهلِ بَدْرٍ ـ قال: جاءَ جبريلُ إلى النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" فقال: ما تَعُدُّون أهلَ بَدْرٍ فيكم؟ قال: "من أفضَلِ المُسلمين". قال: وكذلك من شَهِدَ بَدْراً مِن الملائِكَةِ. البخاري.

وعن عليٍّ "رضي الله عنه" قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "لَعلَّ اللهَ اطَّلَعَ إلى أهلِ بَدْرٍ فقال: اعملوا ما شِئتُم؛ فقد وجبَت لكم الجنَّةُ، أو فقد غَفَرتُ لكُم" متفق عليه.

وعن جابر بن عبد الله: أنَّ عَبداً لحاطِبٍ جاءَ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" يَشكُو حاطِباً، فقال: يا رسولَ الله! ليدخُلَنَّ حاطِبٌ النَّارَ! فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "كذَبتَ؛ لا يدخُلُها، فإنَّه شَهِدَ بَدراً والحُدَيْبيَةَ"[[٤]] مسلم.

[٤] مما يُستفاد من هذا الحديث ـ والذي قبله والذي بعده ـ  التوسع في التأويل، وإقالة العثرات لمن كان له سابقة جهاد وبلاء في الإسلام .. فعِظم الحسنات ليست مانعاً من موانع التكفير، إذا وقع المرء في الكفر البواح، لكنها تُلزم بتحسين الظن بصاحبها، عند حصول الكبوات، أو مورد الكفر المتشابه .. هذا فقه ينبغي أن يتنبه له من يُحاسب، بل ويُكفِّر على الهفوات!

وعنه، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "لن يدخُلَ النارَ رجلٌ شَهِدَ بدراً والحُدَيْبيَةَ"[[٥]].

[٥] أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة: ٢١٦٠. أفاد هذا الحديث وغيره أن عدد المبشرين بالجنة من أصحاب النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" بأعيانهم بالمئات إن لم يكن بالآلاف .. وليس فقط العشرة المبشرين كما يظن البعض!

وعنه، قال: أخبرتني أُمُّ مُبَشِّرٍ أنَّها سمِعَت النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" يقولُ عندَ حفصَةَ: "لا يَدخُلُ النارَ إن شاءَ اللهُ من أَصحَابِ الشَّجَرةِ؛ أحدٌ من الذينَ بايَعوا تحتَها"، قالت: بلى، يا رسولَ الله! فانتهَرَها، فقالت حفصَةُ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} مريم:٧١. فقالَ النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "قد قالَ اللهُ "سبحانه وتعالى": {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} مريم:٧٢. مسلم. 

وعنه، قال: كنَّا يومَ الحديبية ألفاً وأربعمائة. قال لنا النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "أنتم اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ" متفق عليه.

في فضلِ المهاجرين "رضي الله عنه"م أجمعين، وما لهم من حق[[١]].

[١] المهاجرون وكذلك الأنصار هم الأصل، وأيما حديث أو نص يتكلم عن فضل الصحابة فهو يعنيهم ويشملهم بالدرجة الأولى، ولكن لما وردت نصوص تخصهم أو تخص بعضهم بالذكر .. أحببنا أن نفرد لهم أبواباً وعناوين خاصة بهم وبأسمائهم .. وهذا ملاحظ في الصحيحين، وغيرهما من كتب السنن .. فلنا ـ ولله الحمد ـ سلف صالح فيما نقوم به.

قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحشر:٨[[[٢]].

[٢] فمن قال: هم الكاذبون، أو الظالمون أو الكافرون، كما يفعل الروافض الأشرار، يكفر ويخرج من ملة الإسلام؛ لأنه بقوله هذا يكذِّب القرآن، ويرد قولَ الله تعالى وشهادته في المهاجرين من الصحابة بأنهم صادقون!

عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "أتعلم أوَّلَ زُمرةٍ تدخلُ الجنةَ من أمتي؟ قلت: الله ورسولُه أعلم. فقال: المهاجرون؛ يأتون يومَ القيامَةِ إلى بابِ الجنَّةِ ويَستَفْتِحُون، فيقول لهم الخزنة: أوَقَد حُوسِبتُم؟ فيقولون: بأيِّ شيءٍ نُحَاسَب؟! وإنما كانت أسيافُنا على عَواتِقِنَا في سبيلِ الله حتى مِتنا على ذلك. قال: فيُفْتَحُ لهم، فيَقِيلُون فيه أربعينَ عاماً قبل أن يدخلَها الناسُ"[[٣]].

[٣] أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة: ٨٥٣.

وعنه قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "إنَّ أوَّلَ ثلَّةٍ تَدخلُ الجنَّةَ، الفقراءُ المهاجِرون الذين تُتَّقَى بهم المكَارِه، إذا أُمِرُوا سمِعُوا وأطاعُوا، وإن كانت لرجلٍ منهم حاجَةٌ إلى السُّلطانِ لم تُقضَ لهُ حتى يموتَ وهي في صَدْرِه"[[٤]].

[٤] أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٧٢، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقوله " تُتَّقَى بهم المكَارِه"؛ أي يُحتمَى بهم إذا ما اشتد وطيس القتال، أو إذا ما داهم المسلمين خطبٌ أو خطَر.

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "للمهاجرين مَنَابِرُ من ذَهَبٍ يَجلِسونَ عليها يومَ القيامَةِ، قد أَمِنُوا من الفَزَعِ"[[٥]].

[٥] أخرجه ابن حبّان وغيره، السلسلة الصحيحة: ٣٥٨٤. وقوله " قد أَمِنُوا من الفَزَعِ"؛ شامل لكل ما يُفزَع منه يوم القيامة.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر:٩.

وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة:١١٧[[١]].

[١] ساعة العُسرة؛ هي غزوة تبوك، فقد اجتمع فيها العسر كله: عسر الظهر ـ الثلاثة على بعير واحد ـ وعسر الزاد، وعسر الماء، وقد خرج في هذه الغزوة مع النبي "صلى الله عليه وسلم" ما يزيد عن ثلاثين ألفاً من أصحابه.

قال ابن كثير في التفسير: قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر؛ في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء، قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ا- هـ.

وقوله {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}؛ أي فيعودون، ويتركون الغزو مع النبي "صلى الله عليه وسلم" لشدة ما واجههم من عسرٍ في تلك الغزوة .. فيميلون إلى السكون والراحة .. هذا هو معنى الزيغ .. لكن الله تعالى ثبتهم وقوّاهم وأعانهم على إتمام المسير والغزو مع النبي "صلى الله عليه وسلم" في تلك الغزوة الشاقة التي لم تُماثلها غزوة في شدتها وقسوتها وعسرها ..

وهذا الزيغ الذي حصل لبعضهم لم يتعدّ حديث القلب أو النفس، تحت ضغط تلك الظروف الشاقة؛ أي أنه لم يُترجَم على أرض الواقع إلى فعل أو حركة .. فالله تعالى ـ بفضله ورحمته ـ قد ثبتهم، وتاب عليهم. قال البغوي في التفسير: قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدا ا- هـ.

والشاهد مما تقدم: أن هذه الغزوة قد ضمت أكبر عددٍ من أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم"، وكان تعدادهم يزيد عن ثلاثين ألفاً .. وهؤلاء كلهم يعنيهم الرب "جل جلاله" بقوله:

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}.

ومن تاب الرب "جل جلاله" عليه موعده الجنة .. ولم يعذبه أبداً. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين الروافض الأشرار أعداء الصحابة الأخيار من هذه الآية الكريمة .. وكيف تراهم يؤولونها ويُحرفونها!

عن البراء بن عازب "رضي الله عنه"، قال: قال النبي "صلى الله عليه وسلم": "الأنْصَارُ لا يُحِبُّهُم إلا مُؤمنٌ، ولا يُبْغِضُهُم إلا مُنَافِقٌ، فمَن أحبَّهُم أحبَّهُ اللهُ، ومَن أبغَضَهُم أبغَضَهُ اللهُ" متفق عليه.

وعن أنس بن مالك "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "آيَةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنصارِ"[[٢]] متفق عليه.

[٢] قوله "آية الإيمان .. وآية النفاق"؛ أي العلامة الدالة على الإيمان، أو على النفاق .. وبالتالي من يظهر لنا بغض الأنصار "رضي الله عنهم"، عرفنا نفاقه، وحكمنا عليه بالنفاق .. هذا فيمن يبغض الأنصار فقط .. فما يكون القول فيمن يبغض مع الأنصار المهاجرين وغيرهم من أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم" .. فهذا لا شكّ بنفاقه وكفره، وزندقته.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، أنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "لا يُبْغِضُ الأنصَارَ رجلٌ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ"[[٣]] مسلم.

[٣] نفي الإيمان الوارد في الحديث أعلاه؛ المراد منه نفي مطلق الإيمان؛ لأن الذي يبغض الأنصار؛ إنما يبغضهم لدينهم واستقامتهم، ولنصرتهم لدين الله، ولرسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. ولا يُمكن أن يُقال غير ذلك .. ومن كان كذلك لا شك بكفره ونفاقه ومروقه من الدين .. وكذلك يُقال في النفاق؛ فمن أبغضهم يُحمل عليه النفاق الأكبر المخرج لصاحبه من الملة.

وعن الحارث بن زياد الساعدي الأنصاري "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "والذي نفسُ محمدٍ بيدِه لا يُحِبُّ رجلٌ الأنصارَ حتى يَلْقَى اللهَ تباركَ وتعالى، إلا لَقِي اللهَ تباركَ وتعالى وهو يُحِبُّه، ولا يَبْغُضُ رجلٌ الأنصارَ حتى يَلقَى اللهَ تباركَ وتعالى، إلا لَقِيَ اللهَ تباركَ وتعالى وهو يَبغُضُه"[[٤]].

[٤] أخرجه أحمد، والطبراني، السلسلة الصحيحة: ١٦٧٢.

وعن أنس بن مالك "رضي الله عنه"، أنَّ النبي "صلى الله عليه وسلم" رأى صِبياناً ونساءً مُقبلين من عُرسٍ، فقام نبيُّ الله "صلى الله عليه وسلم" مُمْثِلاً، فقال: "اللهُمَّ أنتُمْ مِن أحبِّ الناسِ إلِيَّ، اللهُمَّ أنتُمْ مِن أحبِّ الناسِ إلِيَّ" يعني الأنصار[[٥]]. متفق عليه.

[٥] فقام مُمْثِلاً؛ أي قام منتصباً قائماً. وعنه "رضي الله عنه"، قال: كانت الأنصارُ يومَ الخندقِ تقول:

نحنُ الذين بايعوا مُحمَّداً × على الجِهادِ ما حَيِينا أبدَا

فأجابهم النبي "صلى الله عليه وسلم": "اللهُمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخِرَه × فأكرِمِ الأنصارَ والمُهاجِرَه" متفق عليه.

وعن عائشة "رضي الله عنها" قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ما ضرَّ امرأةً نزَلَت بين بيتين من الأنصار، أو نزَلتْ بين أبَوَيْها"[[٦]].

[٦] أخرجه ابن حبان، والحاكم، وأحمد، السلسلة الصحيحة: ٣٤٣٤. الحديث فيه إشارة صريحة إلى عِظَم الأمانة التي كان يتحلى بها الأنصار، فكما أن المرأة تكون آمنة بين أبويها كذلك لو نزلت بمفردها بين دارين للأنصار فهي آمنة بينهم ومعهم، وتشعر بالأمان كما لو كانت مع أبويها، وفي بيتهما.

وعن أنس "رضي الله عنه"، قال: مرَّ أبو بكرٍ والعباسُ بمجلسٍ من مجالس الأنصار وهم يَبكون فقال: ما يُبكيكم؟ قالوا: ذكَرنا مجلِسَ النبي "صلى الله عليه وسلم" مِنَّا، فدخل على النبي "صلى الله عليه وسلم"، فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي "صلى الله عليه وسلم" وقد عَصَبَ على رأسه حاشيةَ بُردٍ، فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أُوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي وعَيْبتي، وقد قَضَوا الذي عليهم، وبَقِي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنِهم، وتجاوَزوا عن مُسِيئهم"[[٧]] البخاري.

[٧] قولهم "ذكَرنا مجلِسَ النبي "صلى الله عليه وسلم" مِنَّا"؛ أرادوا موته "صلى الله عليه وسلم" وما يُخشى أن يفقدوه بعد موته مما كانوا يجدونه من رحمة وإحسان ورفق في مجالسهم مع النبي "صلى الله عليه وسلم"، وأن يأتي بعده من لا يعرف فضلهم كما كان النبي "صلى الله عليه وسلم" يعرف فضلهم ..

هذا المعنى توضحه رواية أخرى صحيحة: "أُتي النبي "صلى الله عليه وسلم" فقيل له: هذه الأنصار رجالها ونساؤها في المسجد يبكون! قال "صلى الله عليه وسلم": وما يُبكيهم؟! قال: يخافون أن تموت ...".

وقوله "فإنهم كَرِشي وعَيْبتي"؛ أي فإنهم بطانتي، وخاصّتي. وقوله "وقد قَضَوا الذي عليهم، وبَقِي الذي لهم"؛ أي قاموا بما يجب عليهم من نصرة وجهاد وتضحية، وبقي الذي عليكم نحوهم؛ فتشكرونهم وتعرفون لهم فضلهم، ومن شكرهم ومقابلة صنيعهم الجميل: أن تقبلوا من محسنهم إحسانه، وتتجاوزوا عن المسيء منهم إساءته. ومن فوائد الحديث: أن من عُرف بسابقة بلاء وجهاد في الله ينبغي أن يُتوسع له في التأويل، وتُقال عثراته ما أمكن لذلك سبيلاً.

وعنه "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "الأنصارُ كَرِشي وعَيْبتي، والنَّاسُ سَيَكْثُرون ويَقِلُّونَ، فاقبَلوا من مُحْسِنِهم، وتجاوَزوا عن مُسِيئِهم"[[٨]] متفق عليه.

[٨] قوله عن الأنصار أنهم سيقلون؛ فيه أنهم مادة الجهاد، والتضحية والاستشهاد .. يُتقى بهم من العدو، وإذا ما اشتدت المخاطر .. ومن كان كذلك لا شك أن نهايته إلى قِلَّة رضي الله عنهم أجمعين.

وعن ابن عباس "رضي الله عنهما" قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إنَّ الناسَ يَكثرون، وتَقِلُّ الأنصارُ حتى يكونوا كالمِلْحِ في الطَّعامِ، فمن وَلِيَ منكم أمراً يَضُرُّ فيه أحداً أو يَنفَعُه؛ فليَقبلْ من مُحْسِنِهم، ويَتجاوَزْ عن مُسِيئِهم" البخاري. وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "لو أنَّ الأنصارَ سلَكوا وادياً، أو شِعْباً، لَسَلَكْتُ في وادي الأنصارِ، ولولا الهِجْرَةُ لكُنتُ امرَأً من الأنصار" البخاري.

وعن أبي قتادة "رضي الله عنه"، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول على المنبر للأنصار: "ألا إنَّ الناسَ دِثاري، والأنصارَ شِعاري، لو سلَكَ الناسُ وادياً، وسلكَتِ الأنصارُ شُعبة؛ لاتبعتُ شُعبةَ الأنصارِ، ولولا الهجرةُ لكنتُ رجلاً من الأنصارِ، فمن ولِيَ أمرَ الأنصارِ؛ فليُحسِنْ إلى مُحسِنِهم، وليتجاوَز عن مُسِيئهم، ومن أفزَعهم فقد أفزَع هذا الذي بني هاتين؛ وأشار إلى نفسه "صلى الله عليه وسلم""[[٩]].

[٩] أخرجه الحاكم، وأحمد، السلسلة الصحيحة: ٩١٧. "أنتم الشِّعار، والناس الدثار"؛ أي أنتم الخاصة والبطانة، والناس العامة، والدثار: الثوب الذي فوق الشِّعار "النهاية". وقيل: الشِّعار؛ ما ولي الجسد من الثياب، والدثار، ما يُلبس من الثياب فوق الشعار.

عن أنس بن مالك "رضي الله عنه"، قال: خرج علينا رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" فقال: "أَلا إنَّ لكلِّ شيءٍ تَرِكَةً وضَيْعَةً، وإنَّ تَرِكَتي وضَيْعَتي الأنصارُ، فاحفظوني فيهم"[[١٠]].

[١٠] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، السلسلة الصحيحة: ٣٥٦٠. ضيعتي؛ أي عيالي وخاصتي .. وقوله "فاحفظوني فيهم"؛ أي فاحفظوا حقي عليكم بحفظكم لحق الأنصار عليكم، وأداء ما لهم من حق عليكم .. فمن ضيَّع حق الأنصار عليه، ضيع حقي عليه.

وعن زيد بن أرقم "رضي الله عنه" قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "اللهُمَّ اغفِرْ للأنصارِ، ولأبناءِ الأنصارِ، وأبناءِ أبناءِ الأنصار" مسلم.

وعن أنس "رضي الله عنه"، أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "اللهُمَّ اغفِرْ للأنصارِ، ولأبناءِ الأنصارِ، ولأبناءِ أبناءِ الأنصار، ولنساءِ الأنصار"[[١١]].

[١١] صحيح سنن الترمذي: ٣٠٦٨.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: جاءت الحُمَّى إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" فقالت: ابْعَثْني إلى آثَرِ أهلِكَ عندَكَ، فبَعثَها إلى الأنصار، فبَقيَت عليهم سِتَّةَ أيَّامٍ ولياليهنَّ، فاشتَدَّ ذلك عليهم، فأتاهم في ديارهم، فشَكَوا ذلك إليه، فجعل النبي "صلى الله عليه وسلم" يدخل داراً داراً، وبيتاً بيتاً؛ يدعو لهم بالعافية. فلما رجع تَبِعَتْه امرأةٌ منهم فقالت: والذي بَعثَكَ بالحقِّ إنِّي لَمِنَ الأنصارِ، وإنَّ أبي لَمِنَ الأنصار، فادْعُ اللهَ لي كما دَعَوْتَ للأنصار! قال: "ما شِئتِ؛ إنْ شِئتِ دَعوتُ اللهَ أن يُعافِيَكِ، وإنْ شِئتِ صَبَرتِ ولكِ الجَنَّة". قالت: بل أصْبِرُ، ولا أجعَلُ الجنَّةَ خَطَراً[[١٢]].

[١٢] صحيح الأدب المفرد: ٣٨٧. درجة العادة إن كان للمرء حاجة عند أحدٍ آخر، تراه يُناديه ويُخاطبه بأحب الأسماء والألقاب إليه، قبل أن يطرح على مسامعه مسألته أو حاجته، أملاً في أن يُجيبه إلى حاجته أو مسألته ..

وهذه المرأة الأنصارية لعلمها بمكانة الأنصار في نفس النبي "صلى الله عليه وسلم" .. وأن حبَّ النبي "صلى الله عليه وسلم" للأنصار يأباه إن سمع كلمة الأنصار إلا أن يقف، ويلتفت ليتحرى حاجة السائل ... فأول ما ابتدرته .. وقبل أن تُعْرِب عن حاجتها ومسألتها:

"إني لمن الأنصار ....... وإنّ أبي لمن الأنصار ........" ثم قدمت هذا التعريف عن نفسها ـ أنعم به وأكرم من تعريف ـ باليمين المغلظ "أنها من الأنصار" .. بعد هذا التعريف .. والتأكيد على هذا التعريف باليمين المغلَّظ .. عرضت مسألتها وحاجتها "فادْعُ اللهَ لي كما دَعَوْتَ للأنصار"!

فما كان من النبي "صلى الله عليه وسلم" إلا أن وقف ليجيبها إلى مسألتها؛ فأكرمها بخيارين عظيمين، أحدهما أن لها الجنة إن صبرت على مرضها.

ومعنى "ابْعَثْني إلى آثَرِ أهلِكَ عندَكَ"؛ أي إلى خُلَّص وخاصة وأحب أهلك عندك .. لأن الحمى بلاء يطهر صاحبه من الذنوب والخطايا إن صبر واحتسب، كما يطهر الكير الحديد من خبثه

كما في الحديث، عن جابر بن عبد الله أن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" دخل على أمِّ المُسَيَّبِ، فقال: "مالكِ يا أمَّ المسيب تُزَفْزِفِينَ؟" قالت: الحُمَّى، لا بارَك اللهُ فيها، فقال: "لا تَسُبِّي الحمَّى؛ فإنها تُذهِبُ خَطايا بني آدم، كما يُذهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ" مسلم.

وقولها "ولا أجعَلُ الجنَّةَ خَطَراً"؛ أي لا أخاطر فأراهن على الجنة، فلا أعلم هل أنا من أهلها أم لا إن طلبت منك الدعاء لي بالعافية، بل أصبر وأضمن بصبري الجنة.

بَعض ما قِيل في فَضل أبي بكرٍ الصِّدِّيق "رضي الله عنه"، ومَا له مِن حَقٍّ، واسمه: عبدُ اللهِ بنُ عُثمان[[١]].

[١] لُقِّبَ بالصِّدِّيق؛ لسرعة إيمانه وتصديقه للنبي "صلى الله عليه وسلم" في كل ما يُخبر به عن ربه يوم أن كذبته قريش. وبالعَتِيق؛ لعِتقه من النار.

قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة:٤٠[[٢]].

[٢] قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}؛ هما بالإجماع واتفاق جميع المفسرين: محمد رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وأبو بكر الصِّدِّيق "رضي الله عنه" .. وبالتالي فمن يطعن بعدالة الصِّدّيق وحسن صحبته لرسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" .. فهو يطعن ويرد هذه الآية الكريمة .. ومن يطعن بآيات الله تعالى، ويردها .. أو يكذب بها .. فهو كافر مرتد.

عن أبي بَكْرٍ "رضي الله عنه" قال: قُلتُ للنبيِّ "صلى الله عليه وسلم" وأنا في الغارِ: لو أنَّ أحدَهم نظَرَ تحتَ قدَمَيه لأبصَرَنا، فقال: «ما ظَنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنَينِ اللهُ ثالِثُهُما» متفق عليه.

وعن ابن عُمرَ، أنَّ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" قال لأبي بَكرٍ: «أنتَ صاحِبي على الحَوْضِ، وصاحِبي في الغَارِ»[[٣]].

[٣] أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حَسَنٌ غَريبٌ صحيح. ومعنى الحديث: أي كما أنك صاحبي في الغار فأنت يوم القيامة صاحبي على الحوض.

وعن أبي سعيد الخُدْرِي، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «إنَّ مِن أمَنِّ الناسِ عليَّ في صُحْبَتِه ومالِه أبَا بكرٍ، ولو كُنْتُ مُتخِذاً خليلاً غيرَ ربِّي لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ، ولكن أُخوة الإسلامِ ومَوَدَّته، لا يَبقيَنَّ في المسجدِ بابٌ إلا سُدَّ إلا بابَ أبي بكر» متفق عليه.

وعن ابن عبَّاس، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: «لو كنتُ متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخَذتُ أبا بكرٍ، ولكن أخي وصاحبي» البخاري.

وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «لو كنتُ متخذاً خَليلاً لاتخذْتُ أبا بكرٍ خَلِيلاً، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتَّخَذَ اللهُ صاحِبَكُم خليلاً»[[٤]] مسلم.

[٤] الخلَّة: أعلى درجات المحبة وأكملها؛ وهي مقطوعة من الأعلى نحو الأدنى إلا بنص، فخلة الله لعباده مقطوعة إلا لعبدين من عباده: إبراهيم، ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لورود النص، وكذلك خلة النبيّ لأصحابه مقطوعة بالنص كما تقدم أعلاه، وهذا بخلاف خلة الأدنى للأعلى فمسموح بها، كخلة الصحابة وغيرهم من المسلمين لمحمد "صلى الله عليه وسلم"، فالمسلم له أن يقول محمد "صلى الله عليه وسلم" خليلي، ولكن ليس له أن يقول: أنا خليل محمد "صلى الله عليه وسلم".

ومن الأخطاء الشائعة على ألسنة بعض الخطباء المعاصرين أنه يُخاطب المصلين أمامه ـ وفيهم من لا يُصلي إلا الجمعة فقط ـ بعبارة: يا أحباب محمد "صلى الله عليه وسلم" .. وكأنه اطَّلع الغيب وعلم أن محمداً "صلى الله عليه وسلم" يحبه، ويحب من أمامه من المصلين .. فضمان مثل هذا النوع من المحبة لأعيانٍ من الناس كالقطع لهم بالجنة .. وضمانها لهم .. وهذا لا يجوز؛ لأنه من التألِّي بغير علم.

وعن عائشة، أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: «ما نَفَعَنا مالُ أحدٍ، ما نَفَعَنا مالُ أبي بكرٍ»[[٥]].

[٥] أخرجه ابن راهويه في المسند، وغيره، السلسلة الصحيحة: ٢٧١٧.

وعن ابن عباس، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: «ما أحدٌ أعظَمَ عندي يَداً من أبي بكرٍ "رضي الله عنه"، واسَاني بنَفْسِه ومالِه، وأنكَحَني ابنَتَهُ»[[٦]].

[٦] أخرجه الطبراني، وغيره، السلسلة الصحيحة: ٢٢١٤.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «ما لأحَدٍ عِندَنا يَدٌ إلاَّ وَقَد كافَيناهُ، ما خَلا أبَا بكرٍ، فإنَّ لَهُ عِندنا يَداً يُكَافِيهِ اللهُ بها يَومَ القيامَةِ، وما نَفَعَني مالُ أحَدٍ قَطُّ ما نَفَعَني مالُ أبي بكر، ولو كُنتُ مُتّخِذاً خَليلاً لاتخذتُ أبا بكر خَليلاً، ألا وإن صاحِبَكم خَليلُ الله»[[٧]].

[٧] صحيح سنن الترمذي: ٢٨٩٤. أقول: بذل القليل في سبيل الله في وقت العسر والشدة والحاجة، يوازي ـ من حيث الأجر ـ بذل الكثير الكثير في وقت السِّعة والرخاء والاستغناء، ومنه تعلم معنى حديث النبي "صلى الله عليه وسلم": «سَبَقَ دِرْهَمٌ مائةَ ألفِ دِرْهَم» صحيح سنن النسائي: ٢٣٦٧.

وعن عائشة: أن أبا بكر دخلَ على رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، فقال: «أنتَ عَتِيقُ اللهِ من النَّارِ» فيومئذٍ سُمّي عَتيقاًَ[[٨]].

[٨] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٠٥.

وعن عمر بن الخطاب، قال: أمرَنا رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" أن نتصدَّقَ، ووافقَ ذلك عندي مالاً، فقلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبقتَهُ يوماً، قال: فجئتُ بنصفِ مالي. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": «ما أبقيتَ لأهلِك؟» قلتُ: مِثلَهُ. وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عندَه. فقال: «يا أبَا بكرٍ ما أبْقَيْتَ لأهلِكَ؟» فقال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَهُ. قلت: لا أسبِقُه إلى شيءٍ أبَدَاً[[٩]].

[٩] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٠٢.

وعن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «مَنْ أصبَحَ مِنكُم اليومَ صائماً؟» قال أبو بكرٍ: أنا، قال: «فمَن اتَّبَعَ منكُم اليومَ جنازَةً؟» قال أبو بكرٍ: أنا، قال: «فمَن أطعَمَ منكُم اليومَ مِسْكِيناً؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمَن عادَ مِنكم اليومَ مريضاً؟» قال أبو بكرٍ: أنا، فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «ما اجتَمَعْنَ في امرِئٍ إلا دخَلَ الجنَّةَ» مسلم.

وعن جُبَير بن مُطْعِم، قال: أتتِ امرأةٌ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" فكلَّمَتْهُ في شيءٍ، فأمَرَها أن ترجِعَ إليه، قالت: يا رسولَ الله! أرأيتَ إن جِئتُ ولم أجِدْكَ؟ كأنها تُريدُ الموتَ. قال: «إن لم تجدِيني فأتي أبا بَكر ٍ»[[١٠]] متفق عليه.

[١٠] رد المرأة إلى أبي بكرٍ لينظر في أمرها وحاجتها بعد وفاة النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" .. وكذلك أمر النبي "صلى الله عليه وسلم" لأبي بكر ـ دون غيره ـ بأن يصلي بالناس من بعده .. إمارة على الاستخلاف، وارتضائه خليفة لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. فالصلاة أعظم ركن في الدين بعد التوحيد .. فمن يستخلفه النبي "صلى الله عليه وسلم" على دين الناس من باب أولى أن يستخلفه ويرتضيه خليفة لهم في شؤون دنياهم .. وهذا المعنى سيأتي تأكيده في عبارات ترقى إلى درجة التصريح، كما هو مبين في الأحاديث التالية أعلاه.

وعن عائِشَةَ أُمِّ المؤمنين، أنَّ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" قال في مرضه: «مُرُوا أبا بكرٍ يُصلِّي بالنَّاسِ»، قُلتُ: إنَّ أبا بكرٍ إذا قامَ في مَقامِكَ لم يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكاء، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ، فقال: «مُرُوا أبا بكرٍ فليُصلِّ بالنَّاسِ». فقلتُ لِحَفْصَةَ: قُولي إنَّ أبا بكرٍ إذا قامَ في مَقامِكَ لم يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكاء، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ، ففَعَلَتْ حفصَةُ، فقالَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «إنَّكُنَّ لأنتُنَّ صَواحِبُ يوسُف، مُرُوا أبا بكرٍ فليُصلِّ للناسِ». فقالت حَفْصَةُ لِعائشةَ: ما كُنتُ لأُصيبَ مِنكِ خيراً[[١١]]. متفق عليه.

[١١] مما حمل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أن تعتذر وتتعلل لأبي بكر، إضافة إلى شدة بكائه الذي قد يمنعه من أن يسمع صوته لمن خلفه من المصلين .. أن تدفع الحرج عن أبيها؛ لأن الصحابة لم يعتادوا على أن يروا إماماً لهم في مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" غير رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" .. فالموقف شديد عليهم وعلى الإمام معاً .. لذا قد ثبت أن النبي "صلى الله عليه وسلم" كان أحياناً في مرضه الأخير يُصلي بجوار أبي بكر وهو كإمامٍ للناس .. وعندما يريد أبو بكر أن يتأخر إلى الوراء يشير إليه النبي "صلى الله عليه وسلم" أن مكانك .. ليقرر إمامته من بعده .. وأنه الإمام المرتضى .. وليهوِّن على نفوس أصحابه رضي الله عنهم أجمعين رؤية إمامٍ لهم غير النبي "صلى الله عليه وسلم" .. والقبول به كإمام لهم من بعده.

وعن عبدِ الله بن زُمعَة، قال: لمَّا استُعِزَّ برسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، وأنا عِندَهُ في نفَرٍ من المسلمين، دعاهُ بِلالٌ إلى الصَّلاةِ، فقال: مُروا من يُصلي للناس، فخرج عبدُ الله بن زمعة، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائِباً، فقلت: يا عمر، قُمْ فَصَلِّ بالناس، فتقدَّم فَكَبَّر، فلما سمِعَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" صَوتَهُ، وكان عمرُ رجلاً مُجَهّراً؛ قال: «فأين أبو بكر؟ يأبى اللهُ ذلك والمسلمون، يأبى اللهُ ذلك والمسلمون»، فبعث إلى أبي بكرٍ فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس[[١٢]].

[١٢] صحيح سنن أبي داود: ٣٨٩٥. وقوله «استُعِزَّ»؛ أي اشتدَّ به المرض، وأشرَف على الموت «النهاية». وقوله «مجهَّراً»؛ أي جهورياً فيُسمَع صوته عن بُعد. قلت: وإعادة الصحابة للصلاة ثانية .. لغياب أبي بكر عن الإمامة .. دلّ على بطلان الأولى؛ لأن الفرض لا يُعاد مرتين .. كما دل على تأكيد خلافة أبي بكر "رضي الله عنه" لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" في الإمامة الخاصة والعامة سواء.

وفي رواية عنه، قال: لما سمِعَ النبيُّ "صلى الله عليه وسلم" صوتَ عمر ـ قال ابن زُمعة ـ: خرَجَ النبيُّ "صلى الله عليه وسلم" حتى أطلَعَ رأسَهُ من حُجْرَتِه، ثم قال: «لا، لا، لا، لِيُصلِّ للناس ابنُ أبي قُحَافة» قال ذلك مُغْضَبَاً[[١٣]].

[١٣] صحيح سنن أبي داود: ٣٨٩٦.

وعن عائشة، قالت: قال لي رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" في مرَضِه: «ادعِي لي أبا بكرٍ أبَاكِ، وأخاكِ، حتى أكتُبَ كِتاباً؛ فإني أخافُ أن يَتمنَّى مُتَمَنٍّ، ويقولُ قائلٌ: أنا أولى؛ ويأبى اللهُ والمؤمنونَ إلا أبا بكرٍ» مسلم.

وعنها، قالت: لما ثَقُلَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" قال لعبدِ الرحمن بن أبي بكرٍ: «ائتني بكَتِفٍ أو لوحٍ حتى أكتبَ لأبي بكرٍ كتاباً لا يُختلَفُ عليه»، فلما ذهبَ عبد الرحمن ليقوم، قال "صلى الله عليه وسلم": «أبى اللهُ والمؤمنون أن يُختلَفَ عليك يا أبا بكرٍ»[[١٤]].

[١٤] أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة: ٦٩٠. هذا الحديث والأحاديث التي قبله ذات العلاقة بموضوع الاستخلاف والإمامة، تحملنا على القول: بأن خلافة أبي بكرٍ الصديق "رضي الله عنه" كانت بالنص، وبأمرٍ صريح من النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" .. يعلو درجة التلميح أو الإشارة كما يقول بذلك بعض الكتاب!

وقال عمر "رضي الله عنه" لأبي بكرٍ "رضي الله عنه": «بل نُبايُعكَ أنتَ؛ فأنتَ سيِّدُنا، وخيْرُنَا، وأحبُّنَا إلى رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"» البخاري.

عن ابن عمر: أن رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" قال: «اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذينِ الرَّجُلينِ إليكَ؛ بأبي جَهْلٍ، أو بِعُمَرَ بنِ الخطَّابِ»، قال: وكان أحَبُّهما إليه عُمَرُ[[١]].

[١] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٠٧.

وعن عائشة، أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" قال: «اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بعمرَ بنِ الخطَّابِ خَاصَّةً»[[٢]].

[٢] أخرجه ابن حبان، السلسة الصحيحة: ٣٢٢٥.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: «ما زِلنا أَعِزَّةً مُنذُ أسلَمَ عُمَرُ» البخاري.

وعن عُقبة بن عامر، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «لو كان نبيٌّ بعدي، لكان عُمَرَ بنَ الخطَّابِ»[[٣]].

[٣] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٠٩. ولكن لا نبي بعد النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" .. ومن يزعم لنفسه النبوة بعد محمد "صلى الله عليه وسلم" .. وكذلك من يقره على زعمه، فهو كافر مُكَذِّب لما جاء به محمد "صلى الله عليه وسلم".

وعن ابن عمر: أنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: «إنَّ اللهَ جَعَلَ الحقَّ على لِسانِ عُمَرَ وقَلْبِهِ». قال ابنُ عُمرَ: ما نزَلَ بالنَّاسِ أمرٌ قط قالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزلَ فيه القرآن على نحو ما قال عُمَر[[٤]].

[٤] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٠٨.

وعن أنسٍ قال: قال: عُمَرُ: وافَقتُ اللهَ فِي ثَلاثٍ، أَوْ وَافَقَني رَبِّي في ثلاثٍ، فقُلتُ: يا رَسولَ الله، لَو اتخّذتَ مَقامَ إبراهيم مُصَلَّى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} البقرة:١٢٥، وقلتُ: يا رَسولَ الله، يَدخلُ عليكَ البَرُّ والفاجِرُ، فَلَو أمَرتَ أُمَّهاتِ المؤمنين بالحِجابِ، فَأَنزَل اللهُ آيةَ الحِجابِ، قال: وبَلَغَني مُعاتَبةُ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" بعضَ نِسائه، فَدَخَلتُ عَلَيهِنَّ، قُلتُ: إن انتَهَيتُنَّ أو ليُبدِّلَنَّ اللهُ رسولَهُ "صلى الله عليه وسلم" خيراً مِنكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ إحدَى نسائِه، قالَت: يا عُمَرُ، أَما في رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" مَا يَعِظُ نِساءَهُ، حَتَّى تَعِظَهُنَّ أنتَ؟ فَأَنزَلَ الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} التحريم:٥. متفق عليه.

وفي رواية: فقلتُ لهنَّ {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، فنزَلَت هذه الآية[[٥]] متفق عليه.

[٥] قوله «وَافَقَني رَبِّي في ثلاثٍ»؛ لا يلزم منه انتفاء الموافقة فيما هو أكثر من ثلاث، لحصول الموافقة له "رضي الله عنه" فيما هو أكثر مما ذُكر؛ كما في موقفه من الصلاة على المنافقين، والاستغفار لهم، فأنزل الله موافقاً له: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} التوبة:٨٤. وكذلك موقفه من أسرى المشركين في بدر، فأنزل الله تعالى موافقاً لقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الأنفال:٦٧.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسُولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «لقد كان فيمَا قبلَكُم مِنَ الأمَمِ مُحَدَّثُون، فإنْ يَكُ في أُمَّتِي أحَدٌ فإنهُ عُمَرُ»[[٦]] البخاري.

[٦] مُحَدَّثُون؛ أي مُلهَمُون، مُسَدَّدون، موفَّقون، مُفَهَّمُون للحق .. فكل ذلك يدخل في معنى «مُحَدَّثُون».

وفي رواية عنه، قال: قال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِيِ إِسْرَائِيلَ رِجالٌ، يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنبِياءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِيِ مِنْهُمْ أحَدٌ فَعُمَرُ» البخاري.

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": «إيهاً يا ابنَ الخطَّاب، والذي نفسي بيدِه، ما لقيكَ الشيطانُ سالِكاً فجَّاً قَطُّ إلا سلَكَ فجَّاً غيَر فَجِّكَ» متفق عليه.

وعن عائشة قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «إني لأنظرُ إلى شيَاطِينَ الجنِّ والإنسِ قد فرُّوا من عُمَرَ»[[٧]].

[٧] صحيح سنن الترمذي: ٢٩١٤. وقوله «فجَّاً»؛ أي طريقاً.

وعن بُريدة، قال: خرج رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" في بعضِ مغازِيه، فلما انصرَفَ، جاءت جاريةٌ سوداءَ، فقالت: يا رسول الله إني كنتُ نذرتُ إن ردَّك اللهُ سالماً أن أضربَ بين يدَيكَ بالدُّفِّ وأتغنَّى. فقال لها رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «إن كُنْتِ نذَرْتِ فاضرِبي، وإلا فَلا». فجعلت تَضربُ، فدخلَ أبو بكرٍ وهي تَضرِبُ، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عُثمانُ وهي تضربُ، ثم دخل عمرُ، فألقَت الدُّفَّ تحت اسْتِها، ثم قعَدَت عليه، فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": «إن الشَّيطانَ ليخافُ منكَ يا عمرُ، إني كنتُ جالِساً وهي تَضرِبُ، فدخلَ أبو بكرٍ وهي تَضرِبُ، ثم دخل عليٌّ وهي تضرِبُ، ثم دخل عُثمانُ وهي تَضرِبُ، فلمَّا دخلتَ أنت يا عمَرُ ألقَت الدُّفَّ»[[٨]].

[٨] صحيح سنن الترمذي: ٢٩١٣.

وعن ابن عمر، عن رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: «بَيْنَا أنا نائِمٌ إذ رأيتُ قَدْحاً أُتيتُ به فيه لَبَنٌ، فشَرِبتُ منه حتى إني لأرَى الرِّيَّ يجرِي في أظفَاري، ثم أَعْطَيتُ فضلي عُمرَ بنَ الخطابِ» قالوا: ماذا أوَّلتَ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: «العِلْمُ» متفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدريِّ، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: «بَيْنَا أنا نائمٌ رأيتُ الناسَ عُرِضُوا عليَّ، وعليهم قُمُصٌ، فمِنهَا ما يبلُغُ الثَّديَ، ومنها ما يَبلُغُ دونَ ذلك، وعُرِضَ عليَّ عمَرُ وعليه قَميصٌ اجْتَرَّهُ» قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: «الدِّينَ» متفق عليه.

وعن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: «بَيْنَا أنا نائِمٌ رأيتُني على قَلِيبٍ عليها دَلوٌ، فنَزَعتُ منها ما شاء الله، ثم أخذَها ابنُ أبي قُحَافَة فنَزَعَ منها ذنوباً أو ذَنُوبَينِ وفي نَزْعِه ضَعْفٌ، والله يَغفِرُ له، ثم استحالَت غَرْبَاً فأخذَها ابنُ الخطَّابِ، فلَم أرَ عَبْقَرِيَّاً من النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْع عمرَ بنِ الخَطَّابِ؛ حتى ضرَبَ الناسُ بِعَطَنٍ»[[٩]] متفق عليه.

[٩] القَلِيب؛ البئر من الماء. ذنوباً؛ أي دلواً مملوءاً. «استحالت غرباً»؛ أي صار الدلو كبيراً وعظيماً. والعبقري؛ السيد القوي الذي يسود على الأشياء، فلا يُباريه ولا يفوقه شيء. والعطن؛ مبرك الإبل حول الماء؛ فلم يستقي الناس وحسب مما ينتزعه عمر من الماء، بل رووا إبلهم وصنعوا لها عطَنا حوله لتوفر الماء على مدار الوقت، وهذا كناية لشدة ما استفاد الناس في عهد عمر من ولايته وخلافته، وعدله. وفي تأويل هذا الحديث، قال النووي في الشرح ١٥/١٦١: قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ من النبي "صلى الله عليه وسلم" ومن بركته وآثار صحبته فكان النبي "صلى الله عليه وسلم" هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام وقرر قواعد الإسلام ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}

ثم توفي "صلى الله عليه وسلم" فخلفه أبو بكر "رضي الله عنه" سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله "صلى الله عليه وسلم": «ذنوباً أو ذنوبين»، وحصل في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام، ثم توفي فخلفه عمر "رضي الله عنه" فاتسع الإسلام في زمنه وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله فعبَّر بالقليب عن أمر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم وشبه أميرهم بالمستقي لهم وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم

وأما قوله "صلى الله عليه وسلم" في أبي بكر "رضي الله عنه" وفي نزعه ضعف فليس فيه حط من فضيلة أبي بكر ولا إثبات فضيلة لعمر عليه وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها ولاتساع الإسلام وبلاده والأموال وغيرها من الغنائم والفتوحات، ومصَّر الأمصار ودون الدواوين

وأما قوله "صلى الله عليه وسلم": «والله يغفر له»؛ فليس فيه تنقيص له ولا إشارة إلى ذنب وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم ونعمت الدعامة وقد سبق في الحديث في صحيح مسلم أنها كلمة كان المسلمون يقولونها افعل كذا والله يغفر لك، قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما، وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها ا- هـ.

وفي رواية لمسلم: «فجاء ابنُ الخطابِ فأَخذَ منهُ، فلم أرَ نَزْع رجلٍ قطُّ أقوى منه، حتى تولَّى الناسُ، والحوضُ مَلآنُ يتفجَّرُ».

وفي رواية: «ثم جاء عُمرُ فاستقَى، فاستحالت غَرْباً، فلَمْ أرَ عَبْقَرياً من الناسِ يَفْرِي فَرْيَهُ، حتى رَوِيَ النَّاسُ، وضَرَبُوا العَطَنَ»[[١٠]] متفق عليه.

[١٠] قوله «يفري فريه»؛ أي يعمل عمَله، ويتقن إتقانه.

عن عليٍّ بن أبي طالب قال: كنتُ مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، إذ طلعَ أبو بكرٍ وعمر، فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «هذان سيِّدا كُهولِ أهلِ الجنَّة من الأولين والآخرِين، إلا النبيِّين والمُرسَلين، يا عليُّ لا تُخبِرْهُما»[[١]].

[١] صحيح سنن الترمذي: ٢٨٩٧.

وفي رواية لابن ماجه: «لا تُخبرهما يا عليُّ ما داما حَيَّيْنِ»[[٢]].

[٢] صحيح سنن ابن ماجه: ٧٨.

وعن عبدِ اللهِ بنِ حَنْطَبٍ: أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" رأى أبَا بكرٍ وعمرَ، فقال: «هَذان السَّمْعُ والبَصَرُ»[[٣]].

[٣] صحيح سنن الترمذي: ٢٨٩٩. قلت: والمراد أن مكانتهما وأهميتهما في دين الله، وفي أمة الإسلام، كأهمية ومكانة السمع والبصر بالنسبة للإنسان، يوضح هذا المعنى الحديث الذي يليه.

عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «أبو بكرٍ وعُمَرُ من هذا الدين كمنزِلَةِ السَّمْعِ والبَصَرِ من الرَّأسِ»[[٤]].

[٤] أخرجه الطبراني، والخطيب في تاريخ بغداد، السلسلة الصحيحة: ٨١٥.

وعن أبي سعيد الخُدري، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «إنَّ أهلَ الدَّرَجاتِ العُلَى يَراهُم مَنْ أسفَلَ منهم كما يُرَى الكوكَبُ الطَّالِعُ في الأفُقِ من آفاقِ السَّماءِ، وإنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ مِنهُم، وأنْعَمَا»[[٥]].

[٥] صحيح سنن ابن ماجه: ٧٩.

وعن أبي هريرة قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" يقول: «بَيْنَما رجلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذْ رَكِبَها فضَرَبَها، فقالت: إنَّا لم نُخْلَقْ لهذا، إنَّمَا خُلِقْنا لِلْحَرْثِ»، فقال النَّاسُ: سُبحانَ اللهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ، فقال: «فإنِّي أومِنُ بهذا أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ ـ وما هُمَا ثَمَّ ـ، وبَينَما رجلٌ في غَنَمِه إذْ عَدَا الذِّئبُ فذَهَبَ مِنْها بِشاةٍ، فطَلَبَ حتَّى كأنَّه استنقَذَها منه، فقالَ لهُ الذِّئبُ هذا: استَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ لَها يَومَ السَّبْعِ، يَومَ لا رَاعٍ لها غَيرِي»، فقال الناسُ: سُبحانَ اللهِ ذِئبٌ يتكَلَّمُ، قال: «فإنِّي أُوْمِنُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعُمَرُ»، وما هُمَا ثَمَّ[[٦]] متفق عليه.

[٦] «وما هُمَا ثَمَّ»؛ أي ليسا في المجلس مع الناس، يسمعون حديث النبيِّ "صلى الله عليه وسلم". قال البغوي في شرح السنة ١٤/٩٨: قال ابن الأعرابي في قوله «فَمَنْ لَها يَومَ السَّبْعِ»؛ بسكون الباء، يعني يوم القيامة. السَّبْعُ الموضع الذي عنده الحشر، والسَّبع الذُّعرُ أيضاً، يُقال: سبعْتَ الأسدَ؛ إذا ذَعَرْتَه، وهو على هذا التفسير، يوم الفزَع ا- هـ. وقوله «فإنِّي أُوْمِنُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعُمَرُ»؛ فيه دلالة إلى علو درجة التصديق عند أبي بكر وعمر "رضي الله عنهما"، وإلى علو درجة اليقين بصدق كل ما يُخبر به النبي "صلى الله عليه وسلم" من دون إبداء أدنى تعجّب، أو استغراب .. واستغراب أو تعجب الصحابة مما سمعوه من النبي "صلى الله عليه وسلم" لا يفيد عدم إيمانهم أو تصديقهم لما سمعوه من النبي "صلى الله عليه وسلم" .. فحاشاهم ذلك .. بدلالة لفظ الحديث كما في أحد رواياته: «فقالوا مَن حوله: آمنَّا بما آمَنَ به رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم"».

وعن ابن عباس، قال: وُضِعَ عُمرُ على سريرِه، فتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدعون ويُصَلُّونَ قبلَ أن يُرفَعَ، وأنا فيهم، فلم يَرُعْني إلا رجلٌ آخِذٌ مَنْكِبي؛ فإذا عليُّ بنُ أبي طالبٍ، فترحَّم على عُمرَ، وقال: ما خَلَّفْتَ أحداً أحبَّ إليَّ أن ألقى اللهَ بمثلِ عَمَلِهِ منكَ، وأيْمُ الله إنْ كُنتُ ظُنُّ أن يَجعلَكَ اللهُ مع صاحِبَيكَ، وحسِبتُ: إنِّي كُنتُ كثيراً أسمَعُ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" يقول: «ذَهَبتُ أنا وأبو بكرٍ وعُمَرُ، ودخلتُ أنا وأبو بكرٍ وعُمَرُ، وخَرَجْتُ أنا وأبو بكرٍ وعُمَرُ»[[٧]] متفق عليه.

[٧] «فتَكَنَّفَهُ النَّاسُ»؛ أي أحاطوا به من كل الجوانب والجهات. وفي الحديث دلالة على مدى إعجاب علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" بالفاروق عمر بن الخطاب "رضي الله عنه"، وحبه له، وحرصه على أن يلقى الله تعالى على مثل عمل عمر "رضي الله عنهما" .. وليس كما يصور دعاة الفتنة والشقاق والنفاق من الشيعة الروافض أن بينهما من العداوة والبغضاء ما بينهما .. حاشاهما من هذه الفرية العظيمة.

وفي رواية: «كُنتُ وأبو بكرٍ وعُمَرُ، وفعلتُ وأبو بكرٍ وعمرُ، وانطلَقتُ وأبو بكرٍ وعُمَرُ» متفق عليه.

وعن حُذيفة، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «اقْتَدُوا باللَّذَيْنِ مِن بَعْدِي؛ أبي بكرٍ، وعُمَرَ»[[٨]].

[٨] رواه ابن ماجه والترمذي، صحيح سنن الترمذي: ٢٨٩٥. هذا الحديث وما في معناه يحملنا على ترجيح قولي أبي بكر وعمر ـ أو قول أحدهما ـ على قول من سواهما من الصحابة مهما كثر عددهم .. في حال استوى الاستدلال أو غاب الدليل المرَجِّح ـ لأحد القولين ـ من الكتاب والسنة .. ونقول كذلك: لو اختلف أبو بكر وعمر في مسألة من مسائل الاجتهاد .. مع غياب النص المُرَجِّح .. فالقول المتبع حينئذٍ هو قول أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" .. هذا ما يقتضيه العمل بتوجيهات النصوص الشرعية .. وهكذا نفهم وينبغي أن نفهم السَّلفية .. وهذه أصول ينبغي أن تُراعى عند الإفتاء، وعند من يتصدر الإفتاء!

وفي رواية، عنه، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": «إني لا أَدرِي ما بقَائي فِيكُم، فاقتَدُوا باللَّذينِ من بَعْدِي»؛ وأشار إلى أبي بكرٍ وعُمرَ[[٩]].

[٩] صحيح سنن الترمذي: ٢٨٩٦.

وعن عمرو بن العاص، أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" بعثَه على جيشِ ذاتِ السَّلاسِلِ، فأتيتُهُ، فقُلتُ: أيُّ الناسِ أحَبُّ إليكَ؟ قال: «عائشةُ». فقلتُ: من الرِّجالِ؟ فقال: «أبُوها». قلت: ثم مَن؟ قال: «عُمرُ بنُ الخَطَّابِ». فعدَّ رِجالاً، فسَكَتُّ مخافَةَ أن يجعَلَني في آخِرِهِم. متفق عليه.

عن محمَّد بن الحَنَفِيَّةِ، قال: قُلتُ لأبي: أيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسولِ اللهِ "صلى الله عليه وسلم"؟ قال: أَبُو بَكرٍ، قلت: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ عُمَرُ، وخَشَيتُ أن يَقُولَ عُثمانُ، قُلتُ: ثم أنتَ؟ قال: ما أنا إلا رَجُلٌ مِنَ المُسلِمينَ[[١٠]] البخاري.

[١٠] هذه شهادة علي بن أبي طالب في الشيخين أبي بكر وعمر، أنعم بها من شهادة .. وقوله «ما أنا إلا رَجُلٌ مِنَ المُسلِمينَ» هو من قبيل التواضع الجم، وهضم النفس وحظوظها .. علماً أن مكانة علي "رضي الله عنه" في الإسلام معلومة للقاصي والداني .. لا ينكرها إلا ظالم .. وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله .. كما أن في قوله دلالة على مدى زهده بالرياسة والإمارة

وهو بخلاف ما يصوره الشيعة الروافض .. على أنه الخليفة الأول .. وأنه كان حريصاً على الخلافة والإمارة .. وقد اغتصبها منه عنوة من سبقه من الخلفاء الراشدين .. ولا يزالون إلى الساعة يُشاغبون، ويفرقون الأمة، ويوغرون الأحقاد بين المسلمين، ويعتدون على حرماتهم، ويسفكون الدم الحرام، تحت هذا العنوان المزعوم: «أحقية علي بالخلافة، وأن من سبقه من الخلفاء قد اغتصبوا الخلافة منه ظلماً» {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. وفي زعمهم هذا ظلم لعلي "رضي الله عنه"، وطعن به، قبل أن يكون ظلماً لغيره من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، وظلماً للحقيقة ذاتها.

وعن عبد الله بن سلَمَةَ، قال: سمعتُ علياً يقول: خيرُ الناسِ بعدَ رسولِ اللهِ "صلى الله عليه وسلم"، أبو بكرٍ وعُمَرُ[[١١]].

[١١] صحيح سنن ابن ماجه: ٨٦. هذا هو حكم علي "رضي الله عنه"، وهذه هي شهادته بالشيخين "رضي الله عنهما"، أنعم بها من شهادة.

وعن أبي جُحَيْفَة، قال: كنتُ أَرى عليَّاً أفضلَ الناسِ بعدَ رسول لله "صلى الله عليه وسلم"، فذكَرَ الحديث، قلتُ: لا والله يا أميرَ المؤمنين، إني لم أكنْ أَرى أنَّ أحداً مِنَ المسلمين بَعدَ رسولِ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" أفضَلَ منك، قال: أَفلا أُحدِّثُكَ بِأَفضَلِ الناسِ كانَ بعدَ رَسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"؟ قال: قلت: بَلَى، فقال: أبو بكرٍ، فقال: أفََلا أُخْبرك بِخَير الناسِ كان بعدَ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" وأبي بكرٍ؟ قلت: بلى، قال: عُمَر[[١٢]].

[١٢] أخرجه أحمد في المسند، وصححه الشيخ أحمد شاكر في التخريج: ١٠٥٤. قلت: لم يُذكر الحديث الذي عناه بقوله «فذكر الحديث»، لكن لعل معناه متعلق بالمفاضلة بين الصحابة، لمناسبة المعنى لسؤال الصحابي أبي جُحَيْفَة "رضي الله عنه"، وما تضمنه جواب علي "رضي الله عنه" عن السؤال.

وعَن عَبدِ الله بن شقيق قال: قلتُ لعائشة: أيُّ أصحابِ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" كانَ أحب إليه؟ قالت: أبو بكرٍ، قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قالت: ثُمَّ عُمَرُ، قلت: ثم مَن؟ قالت: ثم أبو عُبَيْدَة بنُ الجَرَّاحِ، قُلتُ: ثُمَّ مَن؟ فسَكَتَت[[١٣]].

[١٣] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٥٨.

وعن أبي هُريرة قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «نِعْمَ الرَّجُلُ أبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبو عُبيْدَةَ بنُ الجَرَّاح»[[١٤]].

[١٤] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٥٩.

عن عمْرو القُرَشي، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «من يحفر بِئرَ رُوميةَ فله الجنَّةُ»، فحفَرها عُثمانُ، وقال: «من جَهَّزَ جيشَ العُسْرَةِ فله الجنَّةُ»، فجهَّزَهُ عُثمانُ. البُخاري.

وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: جاءَ عثمانُ إلى النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" بألفِ دينارٍ في كُمِّهِ حين جهَّزَ جيشَ العُسْرَةِ، فَنَثَرَها في حِجْرِه. قال عبد الرحمن: فرأيتُ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" يُقَلِّبُها في حِجرِه ويقول: «ما ضَرَّ عُثمانَ ما عَمِلَ بعد اليومِ مَرَّتَين»[[١]].

[١] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٢٠.

وعن جابر بن عبد الله، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «عُثمانُ في الجنَّةِ»[[٢]].

[٢] رواه ابن عساكر، السلسلة الصحيحة: ١٤٣٥.

وعن عائشة، قالت: كان رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" مُضْطَجِعاً في بيتِي، كاشِفَاً عن فَخِذَيه أو ساقَيْهِ، فاستَأذَن أبو بكرٍ، فأَذِن له وهو على تِلك الحَالِ، فتَحَدَّثَ، ثم استَأذَن عُمرُ، فأَذِنَ له وهو كذلك، فتَحَدَّث، ثم استَأذَن عُثمانُ، فجَلَسَ رسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" وسَوَّى ثيابَه، فدخَلَ فتَحَدَّث، فلمَّا خرَجَ قالت عائشةُ: دخلَ أبو بكرٍ فلم تَهْتَشَّ له، ولم تُبالِهِ، ثم دخلَ عُمرُ فلم تهتَشَّ له ولم تُبالِه، ثم دخل عثمانُ فجَلسْتَ وسوَّيْتَ ثيابَكَ، فقال: «ألا أستَحِي من رَجُلٍ تَسْتَحِي منه الملائِكَةُ»[[٣]] مسلم.

[٣] فلم تَهْتَشَّ له؛ أي فلم تتحرك فتسوي ثيابك لأجله. «ولم تُبالِهِ»؛ أي لم تكترث له، وتحتفي لدخوله.

وفي رواية: «إنَّ عُثمانَ رجلٌ حَيِيٌّ، وإنِّي خَشِيتُ، إن أذِنتُ له على تِلكَ الحَالِ أن لا يَبْلُغَ إليَّ في حاجَتِهِ» مسلم.

وعن كعب بن عُجْرة، قال: ذَكَرَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" فتنةً فقَرَّبها، فمَرَّ رجلٌ مُقنَّعٌ رأسُه، فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «هذا يَومَئذٍ على الهُدَى». فوثَبتُ فأخَذتُ بِضَبْعَي عُثمانَ، ثم استَقبَلتُ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم"، فقلتُ: هذَا؟ قال: «هذَا»[[٤]].

[٤] صحيح سنن ابن ماجه: ٨٩. قوله «فقَرَّبها»؛ أي قرَّب أجلها وحصولها. «مُقنَّعٌ رأسُه»؛ أي في ثوبٍ. والضُّبْعُ؛ بسكون الباء، وسط العَضُد، وقِيل هو ما تحتَ الإبْطِ «النهاية». والفتنة المشار إليها في الحديث؛ المراد منها منازعة خوارج الأمصار لعثمانٍ "رضي الله عنه" على الخلافة .. وفي هذا الحديث والذي يليه دلالة على استخلاف عثمان على المسلمين، وأن خلافته كانت خلافة راشدة مرضية .. وأن الحق معه في خلافه مع مناوئيه .. وأن من خرج عليه كانوا أصحاب فتنة، وعلى ضلال عظيم .. لا تزال الأمة إلى الساعة تكتوي من شر وأذى فتنتهم!

وعن عائشة، أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «يا عثمانُ إنَّه لعَلَّ اللهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصَاً؛ فإن أرادُوكَ على خَلْعِهِ فلا تخلَعْهُ لهم»[[٥]].

[٥] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٢٣. المراد بالقميص؛ الخلافة التي آلت إلى عثمان "رضي الله عنه"، وفي الحديث أمر من النبي "صلى الله عليه وسلم" لعثمان بأن لا يخلع الخلافة، ويتنازل عنها للخوارج المناوئين الذين أرادوا أن يخلعوه عن الخلافة، وينزعوا عنه القميص الذي قَمَّصَه الله إياه .. هذا المعنى تؤكده رواية ابن ماجة التالية.

وفي رواية لابن ماجه: «يا عُثمانُ إنْ ولاَّكَ اللهُ هذا الأمرَ يوماً، فأرادَكَ المنافقون أن تَخْلَعَ قَميصَكَ الذي قَمَّصَكَ اللهُ، فلا تَخْلَعْهُ»، يقول ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ[[٦]].

[٦] صحيح سنن ابن ماجه: ٩٠.

وعن عائشة، قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" في مَرَضِهِ: «وَدِدْتُ أنَّ عِنْدِي بَعْضَ أَصْحَابي» قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله! أَلا نَدعُو لَكَ أَبا بَكْرٍ؟ فَسَكَتْ. قُلْنَا: أَلا نَدعو لكَ عُمَرَ؟ فَسَكَتَ. قُلنا: أَلا نَدعو لَكَ عُثمَانَ؟ قال: «نَعَم» فجَاء، فَخَلا بِه، فَجَعَلَ النبي "صلى الله عليه وسلم" يُكَلِّمُه، وَوَجْهُ عُثمانَ يَتَغَيَّرُ. قالَ قَيسٌ: فَحَدَّثَني أَبُو سَهْلَةَ، مولى عثمان: أنَّ عُثمانَ بن عفانَ قال، يومَ الدَّارِ: إِنَّ رَسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" عَهِدَ إليَّ عّهداً، فَأَنا صائِرٌ إليه[[٧]].

[٧] صحيح سنن ابن ماجه: ٩١.

وفي رواية للترمذي: عن أبي سهلة، قال: قال لي عُثمانُ يومَ الدَّارِ: إنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قد عَهِدَ إليَّ عَهْداً فأنا صابِرٌ عليه[[٨]].

[٨] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٢٨. قوله «يومَ الدَّارِ»؛ أي يوم أن حاصره الخوارج في داره، وأرادوا قتله ظلماً وعدواناً. وقوله «عَهِدَ إليَّ عَهْداً»؛ أي بما سيُصيبه يوم الدار من بلاء على يد الخوارج .. وأنه سُيقتل شهيداً .. لذا قال عثمان "رضي الله عنه": «وأنا صابر عليه».

وعن ابن عمر قال: ذَكَرَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" فتنةً، فقال: «يُقْتَلُ هذا فيها مَظلُوماً»، لعثمان بن عَفَّان "رضي الله عنه"[[٩]].

[٩] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٢٥. صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فقد قُتِل عثمان رحمه الله مظلوماً، شهيداً، وهو يتلو كتابَ الله تعالى .. وعن عمرٍ يُناهز الواحد والثمانين عاماً!

عن أنس بن مالِكٍ، أنَّ النبي "صلى الله عليه وسلم" صَعِدَ أُحُداً، وأبو بكرٍ وعمرُ وعُثمانُ، فرجَفَ بهم، فضرَبَه برِجْلِه، فقال: «اثبُتْ أُحُدُ، فإنَّمَا عليكَ نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشَهِيدان»[[١]] البخاري.

[١] الصِّدِّيق؛ أبو بكر "رضي الله عنه". والشَّهيدان؛ هما عمر وعثمان "رضي الله عنهما".

وعن ابن عمر، قال: كُنَّا في زَمَنِ النبِّي "صلى الله عليه وسلم" لا نَعْدِلُ بأبي بَكرٍ أَحَداً، ثمَّ عمرَ، ثم عُثمانَ، ثم نتركُ أصحابَ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" لا نُفاضِلُ بينهم[[٢]] البخاري.

[٢] أقول: ومن السنة والاتباع والسلامة أن لا نتوسع في المفاضلة فيما بين الصحابة "رضي الله عنهم"، أكثر مما دلَّ عليه النص؛ وأكثر من القدْر الذي خاض به الصحابة على مسمعٍ وإقرارٍ من النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" .. فنثبت ما أثبتوه، ونُمسك عما أمسكوا عنه .. من غير زيادة ولا نقصان، ونترضى على الجميع.

وفي رواية لأبي داود، عن ابن عمر قال: «كُنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" حَيٌّ: أفضلُ أمَّةِ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" بَعدَهُ أبو بكرٍ، ثم عمرُ، ثم عثمانُ»[[٣]].

[٣] صحيح سنن أبي داود: ٣٨٧١.

وعن أبي موسى الأشعري، قال: بينما رسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" في حائطٍ من حوائِطِ المدينةِ، وهو مُتَّكِئٌ يَرْكُزُ بعودٍ معه بين الماءِ والطينِ، إذا استَفْتَحَ رَجُلٌ، فقال: «افتَحْ، وبَشِّرْهُ بالجنَّةِ»، قال ـ أي أبو موسى الأشعري ـ: فإذا أبو بكرٍ، ففَتَحتُ له وبَشَّرْتُهُ بالجنَّةِ، ثم استَفْتَحَ رجلٌ آخَرُ، فقال: «افتَحْ، وبَشِّرْهُ بالجنَّةِ»، قال: فذهبتُ، فإذا هو عُمَرُ، ففتحتُ له وبَشَّرْتُهُ بالجنَّةِ، ثمَّ استفتحَ رجلٌ آخَرُ، قال: فجلسَ النبيُّ "صلى الله عليه وسلم" فقال: «افتَحْ وبَشِّرْهُ بالجنَّةِ على بَلْوَى تكونُ ـ وفي رواية: ائذَن لهُ وبَشِّرْه بالجنَّةِ، على بلْوَى سَتُصِيبُهُ»، قال: فذَهبتُ فإذا هو عُثمانُ بنُ عفانَ ، ففَتَحْتُ وبَشَّرْتُهُ بالجَنَّةِ، وقلتُ الذي قال، فقال: اللهمَّ صَبراً، واللهُ المُستعَانُ[[٤]] متفق عليه.

[٤] الحائط؛ البستان. وقوله «على بلْوَى سَتُصِيبُهُ»؛ هو ما أصابه ونزل به يوم الدار، يوم أن تَسَوَّر عليه الخوارج ـ ومن وراءهم من أتباع ابن سبأ ـ الدارَ، فقتلوه!

عن سعد بن أبي وقاص، أن رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" خَرَجَ إلى تَبُوك، واستَخْلَفَ عليَّاً، فقال: أتُخَلِّفُني في النِّساءِ والصِّبيانِ؟ فقالَ "صلى الله عليه وسلم": «ألا تَرْضَى أن تكونَ مِنِّي بمنزِلَةِ هارونَ مِن مُوسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بَعْدِي»[[١]] متفق عليه.

[١] قال البغوي في شرح السُّنّة ١٤/١١٣: هذا مثَلٌ ضربَه عليه السلام لعليٍّ "رضي الله عنه" حين استَخلفه على أهله حالة غيبته، كما استخلف موسى أخاه هارون حين خرج على الطُّور، فكانت تلك الخلافة في حياته في وقتٍ خاصٍّ ا- هـ.

وعن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، أنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال يومَ خيبَرَ: «لأُعطِيَنَّ هذه الرَّايَةَ غداً رجُلاً يَفتَحُ اللهُ على يَدَيهِ، يُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ ورسولُه». فباتَ النَّاسُ يَدُوكونَ ليلتَهُم أيُّهم يُعْطَاها، قال: فلمَّا أصبحَ الناسُ غَدَوا على رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" كلُّهم يَرجو أن يُعْطَاها، فقال "صلى الله عليه وسلم": «أينَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ؟» فقالوا: هو يا رسولَ اللهِ يَشْتَكِي عَيْنَيه. قال: «فأرسِلُوا إليه»، فأُتِيَ به، فبَصَقَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" في عَيْنَيْهِ، ودعا لَهُ، فَبَرأ حتى كأَنْ لم يَكُنْ به وجَعٌ، فأعطاهُ الرَّايَةَ[[٢]] متفق عليه.

[٢] يدوكون؛ أي يخوضون ويتحدثون.

وعن عليٍّ قال: والذي فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسْمَةَ إنَّهُ لَعَهِدَ النبيُّ الأُمِّي "صلى الله عليه وسلم" إليَّ: «أن لا يُحِبُّني إلا مؤمنٌ، ولا يُبْغِضُنِي إلا مُنافقٌ»[[٣]] مسلم.

[٣] النَّسمة؛ كل ذات روح ونفْس، وقوله: «وبَرَأَ النَّسْمَةَ» أي وخلق كل ذات روح.

وعن أمِّ سَلَمة، قالت: أَشهدُ أني سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: «من أحَبَّ عليَّاً فقد أَحبَّني، ومَن أَحبَّني فقَد أحبَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، ومَن أبْغَضَ عليَّاً فقد أبغَضَني، ومَن أبغَضَني فقَدْ أبغَضَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ»[[٤]].

[٤] رواه المخلص في الفوائد المنتقاة، السلسلة الصحيحة: ١٢٩٩.

وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «مَن كُنتُ مَولاهُ، فعليٌّ مَوْلاهُ، اللهمَّ وَالِ مَن وَالاهُ، وعَادِ من عَادَاهُ»[[٥]].

[٥] أخرجه النسائي، والحاكم، وأحمد، السلسلة الصحيحة: ١٧٥٠.

وعن البراء بن عازب، قال: أقبلنا مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في حجته التي حج فنزل في بعض الطريق، فأمَرَ الصلاةَ جامِعَة، فأخذ بيدِ عليٍّ، فقال: «ألَستُ أَوْلى بِالمُؤمِنينَ مِن أَنفُسِهِم؟» قَالُوا: بَلى. قَالَ: «أَلَسْتُ أَولى بِكُلِّ مُؤمِنٍ مِن نَفسِهِ؟» قَالوا: بَلى. قالَ: «فَهذَا وَليُّ مَنْ أَنا مَولاهُ. اللهُمَّ وَالِ من والاهُ، اللهمَّ عادِ من عَاداهُ»[[٦]].

[٦] صحيح سنن ابن ماجه: ٩٤.

وعن عمران بن حُصين، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «إنَّ عليَّاً مِنِّي وأنا مِنْهُ، وهو وَلِيُّ كُلِّ مؤمِنٍ مِنْ بَعْدِي»[[٧]].

[٧] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٢٩.

وعن حَبَشِيِّ بنِ جُنادَةَ، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «عليٌّ مِنِّي وأنا من عَلِيٍّ، ولا يُؤدِّي عنِّي إلا أنا أو عَليٌّ»[[٨]].

[٨] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٣١. قوله «ولا يُؤدِّي عنِّي إلا أنا أو عَليٌّ»؛ أي لا يؤدي عني في إبرام العقود والعهود وإنهائها والتحلل منها مع الآخرين، «إلا أنا أو عَليٌّ»؛ لأنه قد مضى العرف عند العرب أن من أبرم عقداً لا يحله أو يوقف العمل به إلا صاحبه، أو من ينوب عنه من أقاربه، والنبي "صلى الله عليه وسلم" قد أقر هذا العرف، وحتى لا يقول من العرب قائل، لما أرسل الرسولُ "صلى الله عليه وسلم" أبا بكر إلى مكة يوم الحج ليقرأ على الناس سورة براءة التي تحدد موقف الإسلام والمسلمين ممن له مع المسلمين عهد أو عقد .. أردفه بعليٍّ على ناقته القصواء ليكون هو الذي يقرأ براءة، ويُبلِّغ الناس نيابة عنه.

وعن عمرو بن شَاس، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: «مَنْ آذَى عَليَّاً فقَد آذَاني»[[٩]].

[٩] رواه البخاري في التاريخ، وأحمد، وابن حبان، السلسلة الصحيحة: ٢٢٩٥.

وعن أبي سعيد الخدري، قال: اشتكَى الناسُ عليَّاً "رضي الله عنه"، فقام رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" فينا خَطِيباً، فسمعته يقول: «أيُّها النَّاسُ! لا تَشْكُوا عليّاً؛ فوالله إنَّهُ لأخْشَنُ في ذاتِ اللهِ ـ أو في سبيلِ اللهِ ـ من أن يُشْكَى»[[١٠]].

[١٠] أخرجه ابن إسحاق في السيرة، السلسلة الصحيحة: ٢٤٧٩.

عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا جلوساً ننتظرُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم"، فخرَجَ علينا من بعضِ بيوتِ نسائهِ، قال: فقمنا معه، فانقطعَت نعْلَه، فتَخَلَّفَ عليها عليٌّ يَخْصِفُها، فمَضَى رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" ومَضَينا معه، ثم قامَ ينتظِرُه، وقمنا معه، فقال: «إنَّ مِنْكُم من يُقَاتِلُ على تأويلِ هذا القرآنِ، كما قَاتَلْتُ على تنْزِيلِه»، فاستَشْرَفنا وفينا أبو بَكرٍ وعُمرُ، فقال: «لا، ولكنَّهُ خاصِفُ النَّعْل». قال فجئنا نبشِّره، قال: وكأنه قد سَمِعَه[[١١]].

[١١] أخرجه النسائي، وابن حبان، والحاكم وأحمد، السلسلة الصحيحة: ٢٤٨٧. وقوله «يَخْصِفُها»؛ أي يخْرِزُها بالمخراز ليُصلِحها. والقتال على تنزيل القرآن؛ هو قتال من يجحد وينكر القرآن الكريم بأنه كلام الله تعالى وأنه منزل من عند الله تعالى على عبده ونبيه محمد "صلى الله عليه وسلم"، فيكون قتالهم لحملهم على الإيمان بالقرآن، والإيمان بالرسول "صلى الله عليه وسلم" الذي أنزل عليه القرآن. أما القتال على تأويل القرآن؛ فهو قتال أناس ينتسبون إلى القبلة .. لا ينكرون القرآن جملة .. ولكن يتأولونه التأويل الفاسد الذي به يستحلون الحرمات .. فكان ممن تأول القرآن هذا التأويل الفاسد الخوارج كلاب أهل النار؛ فانطلقوا إلى آياتٍ قيلت في الكافرين المجرمين فحملوها على المسلمين المؤمنين .. فانتهكوا الحرمات .. وسفكوا الدم الحرام .. وقطعوا السبيل .. وكان أول من قاتلهم على تأويلهم الفاسد هذا علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" .. كما أخبر بذلك النبي "صلى الله عليه وسلم".

وعن ابن عباس قال: «أوَّل مَن صَلَّى عليٌّ»[[١٢]].

[١٢] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٣٥. وقوله: «أول من صلى»؛ أي من الصحابة. قال أبو عيسى "الترمذي": قال بعض أهل العلم: أول من أسلم من الرجال أبو بكرٍ الصديق، وأسلم علي وهو غُلام ابن ثمان سنين، وأول من أسلم من النساء خديجة ا- هـ.

عن أبي هريرة، أن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" كان على حِرَاءٍ هو وأبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعليٌّ، وعُثمَانُ، وطَلْحَةُ، والزُّبَيْرُ، فتَحَرّكَت الصَّخْرَةُ، فقال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «اهْدَأ، فمَا عليكَ إلا نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شَهِيدٌ»[[١]] مسلم.

[١] حِراء؛ جبل من جبال مكة المكرمة.

وفي رواية عنه، أن رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" كان على جَبَلِ حِرَاءٍ، فَتَحَرَّكَ، فقال رسُولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «اسكُنْ، حِرَاءُ! فَمَا عَلَيْكَ إلا نَبِيٌّ أو صِدِّيقٌ أَو شَهِيدٌ»، وعليه النبي "صلى الله عليه وسلم" وأبو بكرٍ وعُمَرُ وَعُثمانُ وَعليُّ وطَلحَةُ والزُّبَيْرُ وَسَعْدُ ابنُ أبي وَقَّاصٍ. مسلم.

وعن أَنَسٍ بن مالِك؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" قال: «أَرحَمُ أُمَّتي بِأمَّتِي أَبو بَكرٍ، وَأَشَدُّهم فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصدَقُهُم حَيَاءً عُثمَانُ، وأَقضَاهُم عَلِيٌّ بنُ أَبي طالِبٍ، وأَقْرَؤهُمْ لِكِتابِ الله أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وأَعلَمُهُم بِالحَلالِ والحَرامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وأَفرَضُهُم زَيدُ بنُ ثَابِتٍ، أَلا وإنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أمِيناً، وأَمينُ هذِهِ الأمَّةِ أَبو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ»[[٢]].

[٢] صحيح سنن ابن ماجه: ١٢٥.

وعن سعيد بن زيدٍ بن عمرو بن نفيل قال: كان رسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" عاشِرَ عَشْرَةٍ؛ فقال: «أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّة، وعُثمانُ في الجَنَّةِ، وَعَليٌّ فِي الجَنَّةِ، وطَلحَةُ فِي الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ فِي الجنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الجنَّة، وَعَبدُ الرَّحمن فِي الجَنَّةِ»، فَقيل لهُ: مَنِ التَّاسِعُ؟ قالَ: أَنَا[[٣]].

[٣] صحيح سنن ابن ماجه: ١١٠.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: «القائِمُ بعدي في الجنَّةِ، والذي يقومُ بعدَه في الجنَّةِ، والثالِثُ والرَّابعُ في الجنَّةِ»[[٤]].

[٤] أخرجه يعقوب الفسوي في المعرفة، وابن عساك في التاريخ، السلسلة الصحيحة: ٢٣١٩. وقوله «القائم بعدي»؛ أي الخليفة القائم بأمر المسلمين ورعايتهم بعدي.

وعن العِرْباض بن سارية، قال: وعَظَنا رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" موعِظَةً ذَرَفَت منها العيون، ووجلَت منها القلوبُ، فقلنا أي رسولَ اللهِ، إنَّ هذه لموعظةُ مُودِّعٍ، فماذا تعهَد إلينا؟ قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلى البَيضَاء؛ لَيلُهَا كَنَهَارِها. لا يَزِيغُ عَنهَا بَعدِي إلاَّ هَالِكٌ. مَنْ يَعِشْ مِنكُمْ فَسَيَرى اختِلافَاً كَثِيراً، فَعَلَيكُم بِما عَرَفتُم مِن سُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهدِيين، عَضُّوا علَيها بالنَواجِذِ».

وفي روايةٍ: «سَتَرَونَ مِنْ بَعدِي اختِلافاً شَديداً، فَعَلَيكُم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَاشِدين المَهدِيِّين، عَضُّوا عَلَيها بِالنَواجِذ، وإِيَّاكُم والأمورَ المُحدَثاتِ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالة»[[٥]].

[٥] صحيح سنن ابن ماجه: ٤٠-٤١.

وفي رواية لأبي داود: «فإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرى اختِلافاً كَثِيراً، فعليكُم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ المَهدِيينَ الرَّاشِدينَ تَمَسَكُوا بِها، وعَضوا عَلَيها بِالنَواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأُمورِ فَإنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ، وكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ»[[٦]].

[٦] صحيح سنن أبي داود: ٣٨٥١. الخلفاء الراشدون باتفاق جميع أهل العلم، هم: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليّ، "رضي الله عنهم أجمعين".

والحديث أفاد معانٍ عدة منها: أن الالتزام بسنة الخلفاء الراشدين منجاة من الضلال، والوقوع في البدع والأمور المحدثة في الدين. ومنها: أن قول أو فعل الواحد من الخلفاء الراشدين الأربعة ـ فيما ليس فيه نص من كتاب ولا سنة، وفيما لا يُخالف نصاً من كتاب أو سنة ـ هو حجة يُلزم الأخذ به .. وعدم الالتفات إلى ما سواه عند مورد الخلاف!

فإن قيل: إن حصل خلاف فيما بين الخلفاء الأربعة، في بعض أقوالهم أو اجتهاداتهم ـ فيما ليس فيه نص، يرجح قولاً على آخر ـ فقول مَن يُقدّم، وقول من يؤخر ..؟

أقول: في حال حصول التعارض، وعدم إمكانية التوفيق بين أقوالهم ـ وانتفاء النص من الكتاب أو السنة الذي يرجح قولاً على آخر ـ فيُقدّم قولهم بحسب ترتيب خلافتهم: قول أبي بكر أولاً ، ثم قول عمر، ثم عثمان، ثم علي "رضي الله عنهم أجمعين"

فقول أبي بكر يُقدم على قول عمر وعثمان وعلي. وقول عمر يُقدَّم على قول عثمان وعلي. وقول عثمان يُقدَّم على قول علي "رضي الله عنهم أجمعين" .. فمراعاة هذا الترتيب من عوامل الترجيح التي ينبغي للعالم أن يتنبه لها، ويأخذ بها عند الإفتاء أو عند ترجيح قول على قول.

عن البَرَاء بن عازِب، قال: رأيتُ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" والحسَنُ بنُ عليٍّ على عاتِقِه، يقول: «اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ، فأَحِبَّهُ» متفق عليه.

وعن أبي هريرة، قال: ما رأيتُ حَسَناً قطّ إلا فاضَتْ عَينَاي دُمُوعاً، وذلك أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" خرجَ يوماً فوجَدني في المسْجِد، فأخذَ بيدِي، فانطلَقتُ معه، فما كلَّمَني حتى جِئنا سوقَ بني قَيْنُقَاعٍ، فطافَ به ونظرَ، ثم انصرفَ وأنا معه حتى جِئْنَا المسجدَ، فجلَسَ فاحْتَبَى، ثم قال: «أين لُكَاعُ؟ ادعُ لي لُكاعَ». فجاء حسَنٌ يَشْتَدُّ فوقَعَ في حِجْرِهِ، ثم أدخَلَ يدَهُ في لحيتِه، ثم جعلَ النبيُّ "صلى الله عليه وسلم" يفتحُ فاهُ، فيُدْخِل فاهُ في فِيهِ، ثم قال: «اللهمَّ إني أُحِبُّه، فأَحْبِبْهُ، وأَحِبْ مَن يُحِبُّه»[[١]].

[١] أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد، والحاكم، السلسلة الصحيحة: ٢٨٠٧. ولكاع؛ الصغير في السن الذي لا يدري من شؤون الدنيا شيئاً، قال ابن الأثير في النهاية: فإن أُطلق على الكبير أُريد به الصغير العلم والعقل ا- هـ.

وعن أُسامَةَ بنِ زيدٍ "رضي الله عنهما"، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" أنه كان يأخُذُه والحَسَنَ، ويقولُ: «اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُما فأَحِبَّهُمَا» البخاري.

وعنه، قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" ـ عن الحَسَن والحُسَين ـ: «هذانِ ابْنَاي وابْنَا ابنَتي، اللهمَّ إنِّي أحِبُّهُما فأَحِبَّهُما، وأحِبْ مَن يُحِبُّهُما»[[٢]].

[٢] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٦٥.

وعن يعلى بن مُرَّة، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «حُسَيْنٌ مِنِّي، وأنا من حُسَيْن، أحبَّ اللهُ مَن أَحَبَّ حُسَيْنَاً، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاطِ»[[٣]].

[٣] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٧٠. وقوله «سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاطِ»؛ أي أُمَّةٌ من أُمم الخير، والأسباطُ في أولاد إسحاق بن إبراهيم الخليل بمنزلة القبائل في ولدِ إسماعيل، واحدهم سِبْط، فهو واقعٌ على الأمة، والأمة واقعة عليه. «النهاية».

وعن أبي هريرة، قال: خرَجَ علينا رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" ومعه حَسَنٌ وحُسَينٌ، هذا على عاتِقِه، وهذا على عاتِقِه، وهو يَلْثُمُ هذا مرَّةً، ويَلثُمُ هذا مَرّة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجلٌ: يا رسولَ الله، إنَّك تُحِبُّهما. فقال "صلى الله عليه وسلم": «من أحبَّهُما فقَد أحبَّنِي، ومَن أبغَضَهُما فقَدْ أبغَضَني»[[٤]].

[٤] أخرجه أحمد، والحاكم، والبزّار، السلسلة الصحيحة: ٢٨٩٥. وقوله «يلثم»؛ أي يُقبِّل.

وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه كان يُصلِّي والحسَنُ والحُسينُ يَلعبانِ ويَقعُدانِ على ظهرهِ، فأخذَ المسلمون يُميطونَهُما، فلما انصَرَفَ، قال: «ذَرُوهما ـ بأبي وأُمِّي ـ مَن أحَبَّني فيُحِبَّ هذَينِ»[[٥]].

[٥] أخرجه أبو نعيم في الحلية، وغيره، السلسلة الصحيحة: ٤٠٠٢.

وعن أبي سعيد الخُدري، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «الحَسَنُ والحُسَيْنُ، سَيِّدَا شَبَابِ أهلِ الجنَّةِ»[[٦]].

[٦] صحيح سنن الترمذي: ٢٩٦٥.

وعن أبي فاخِتَة، قال: قال علي: زارَنا رسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم"، فباتَ عِندنا؛ والحسَنُ والحُسَين نائمان، فاسْتَسْقَى الحسَنُ، فقام رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" إلى قُربَةٍ لنا، فجعلَ يَعْصِرُها في القَدْحِ، ثم يَسقِيهِ، فتناولَهُ الحُسَيْنُ ليشْرَب فمنَعَهُ، وبدأ بالحسَنِ، فقالت فاطمةُ: يا رسولَ اللهِ! كأنَّه أحبُّ إليكَ؟ فقال: «لا، ولكنَّه استَسْقَى أوَّلَ مرَّةٍ». ثم قالَ رسولُ اللهِ "صلى الله عليه وسلم": «إنِّي وإيَّاكِ، وهذين، وهذا الرَّاقِدُ ـ يعني عليَّاً ـ يومَ القيامَةِ في مكانٍ واحدٍ»[[٧]].

[٧] أخرجه الطيالسي في مسنده، وغيره، السلسلة الصحيحة: ٣٣١٩.

وعن جابر، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: «من سَرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهلِ الجنَّةِ؛ فلينظُرْ إلى الحسَينِ بنِ عليٍّ»[[٨]].

[٨] أخرجه أبو يعلى في مسنده، السلسلة الصحيحة: ٤٠٠٣.

وعن أنسٍ، قال: «لم يكُن أحَدٌ أشبَهَ بالنبيِّ "صلى الله عليه وسلم" من الحَسَنِ بنِ عليٍّ» البخاري.

وعن أبي بَكْرَةَ، قال: رأيتُ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" على المنبِر والحسَنُ بنُ عليٍّ إلى جَنْبِه، وهو يُقبِلُ على الناسِ مرَّةً وعليه أخْرَى، ويقول: «إنَّ ابنِي هذا سَيِّدٌ، ولعَلَّ اللهَ أن يُصلِحَ به بين فئتِين عَظِيمَتين من المسلمين»[[٩]] البخاري.

[٩] هاتان الفئتان العظيمتان من المسلمين، هما فئة معاوية "رضي الله عنه" ومن معه من الصحابة، وفئة علي "رضي الله عنه" ومن معه من الصحابة .. وما دار بينهما من خلاف ونزاع معلوم، ومعلومة أسبابه .. فالحسن "رضي الله عنه" يُصلح الله به بين هاتين الفئتين العظيمتين .. ويكون سبباً في إنهاء النزاع بينهما، بمبايعة الحسن معاويةَ "رضي الله عنهما" كخليفة للمسلمين.

والحديث أفاد معانٍ عدة: منها: أن الفئتين ـ بشهادة النبي "صلى الله عليه وسلم" ـ على ما حصل بينهما من نزاع وقتال .. فهما مسلمتان، وبالتالي لا يجوز الخوض في التشكيك بإسلام أو عدالة أحدٍ من الصحابة ممن شاركوا في هذا النزاع .. لشهادة النبي "صلى الله عليه وسلم" للفئتين بأنهما مسلمتان.

ومنها: أن الصلح الذي حصل بين الحسن ومعاوية، وما آلت إليه من نتائج .. بما في ذلك استخلاف معاوية على المسلمين .. هو صلح مبارك .. قد باركه النبي "صلى الله عليه وسلم" وأقره، وارتضاه لأمته.

وعن عليٍّ قال: دخلتُ على النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" ذاتَ يومٍ وعيناهُ تفيضان، قلت: يا نبيَّ الله أغضَبكَ أحدٌ؟ ما شأنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضان؟ قال: «قامَ من عِندِي جبريلُ مِن قَبْلُ، فَحَدَّثَني أنَّ الحُسَين يُقتَلُ بشَطِّ الفُراتِ، فقال: هل لك إلى أن أُشِمَّك من تُرْبَتِه؟ قلت: نعم، فمَدَّ يدَهُ فقبضَ قبْضَةً من تُرابٍ فأعطانِيها، فلَم أملِك عينَيَّ أن فاضَتَا»[[١٠]].

[١٠] أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة: ١١٧١.

وعن عبد الرحمن بن أبي نُعْمٍ قال: كُنتُ شاهداً لابنِ عُمَرَ، وسألهُ رجلٌ عن دَمِ البعوضِ، ـ وفي رواية: وسأَلَهُ عن المُحْرِم يَقْتُلُ الذُّبابَ ـ؟ فقال: مِمَّن أنتَ؟ قال: من أهلِ العراقِ. قال: انظرُوا إلى هذا، يسألُني عن دمِ البَعُوْضِ؟ وقد قتَلُوا ابنَ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"! وسمِعْتُ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" يقول: «هما ـ أي الحسن والحسين ـ رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» البخاري.

وقوله «رَيْحَانَتَايَ»؛ أي ولداي اللَّذَين أرتاح وأسر لرؤيتهما .. فهما قرة العين؛ برؤيتهما وملاعبتهما .. أُرَوِّح عن نفسي .. وتستريح نفسي.

عن يحيى بن سعيد، قال: كنا عند علِيِّ بنِ الحُسَين فجاءَ قومٌ من الكوفيين، فقال علي: يا أهلَ العراقِ أحِبُّونا حُبَّ الإسلامِ، سمعتُ أبي يقول: قالَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «يا أيُّها الناس! لا ترفعوني فوقَ قدْرِي، فإن الله اتخذني عَبْداً قبل أن يتَّخَذَني نَبيَّاً»[[١٢]].

[١٢] أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الشيخ ناصر في السلسلة الصحيحة "٢٥٥٠": وهو كما قالا.

قلت: هذا المعنى الذي أشار إليه علي بن الحسين "رضي الله عنهما" هام جداً؛ إذ ليس من الحب الشرعي لآل بيت رسول الله الغلو في حبهم وإطرائهم ورفعهم إلى مقام النبوة أو الربوبية والألوهية كما يفعل الشيعة الروافض بزعم الموالاة لأهل البيت وكما فعل النصارى بعيسى عليه السلام فرفعوه إلى مقام الربوبية والألوهية وهو من ذلك الغلو براء

فهذا منافٍ للحب الشرعي الذي أمرنا الله تعالى، ورسولُه "صلى الله عليه وسلم" به. وقوله «أحبونا حُب الإسلام»؛ أي الحب الذي يوجبه الإسلام ويرتضيه الإسلام أن يكون بين المسلمين المؤمنين؛ حُب يعرف للمحبوب حقه وقدره، ومكانته الشرعية من غير غلوٍّ ولا جفاء، ومن غير زيادة ولا نقصان

فالحمد لله الذي هدانا لحب آل بيت النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" .. وحب أصحابه .. حُب الإسلام الذي يعرف لهم حقهم وقدرهم، ومكانتهم .. من غير غلو ولا جفاء!

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ النور: ١١-١٧[[١]].

[١] هذه الآيات نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة "رضي الله عنها" من حادثة الإفك الأثيم، الذي تولى إشاعته المنافقون، وسمع لهم بعض المسلمين، ورغم قوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا﴾، فإن الشيعة الروافض يعودون ـ من قبيل المشاققة والمعاندة والحقد، ورغبة منهم في التكذيب وهدم أركان الدين ـ لمثله، ولما هو أعظم منه .. ثم هم بعد ذلك يزعمون زوراً أنهم مسلمون!

عن عائشةَ "رضي الله عنها"، قالت: قالَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" يوماً: «يا عائِشَ هذا جبريلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ» فقلتُ: وعليه السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، تَرَى ما لا أرى؛ تُريدُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم". متفق عليه.

وعن أنس بنِ مالكٍ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" يقول: «فضلُ عائشةَ على النساء؛ كفَضْلِ الثَّرِيدِ على سائرِ الطعامِ»[[٢]] متفق عليه.

[٢] الثريد: طعام من لحم ومَرَق.

وعن هِشامٍ، عن أبيه، عن عائشةَ "رضي الله عنها": أنَّ النَّاسَ كانوا يَتَحَرَّونَ بِهَدَايَاهُم يَومَ عائشةَ، يبتغون بها مرْضَاةَ رسولِ اللهِ "صلى الله عليه وسلم". قالت: فَاجتَمَعَ صَوَاحِبي إلى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلنَ: يا أُمَّ سَلَمَة، واللهِ إن النَّاسَ يَتَحرَّونَ بِهَداياهُم يَومَ عَائِشَةَ، وإِنَّا نُرِيدُ الخَيرَ كَمَا تُريدُهُ عَائِشَةُ، فَمُري رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" أن يَأمُرَ الناس أن يُهدُوا إِلَيهِ حيثُ مَا كانَ، أو حَيثُما دارَ، قالت: فَذَكَرَت ذلكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَبِيِّ "صلى الله عليه وسلم"، قالت: فَأَعرَض عَنِّي، فَلَما عَادَ إِلَيَّ ذَكَرتُ لهُ ذاكَ فأعرَضَ عَنِّي، فَلَما كانَ في الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ له فقال: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ لا تُؤذِيِني فِي عائِشَةَ، فَإِنَّهُ واللهِ ما نَزَلَ عَليَّ الوَحيُ وأَنا فِي لِحَافِ امرَأةٍ مِنكُنَّ غَيرِهَا» متفق عليه.

وفي رواية لمسلم، عن عائشةَ زوجِ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قالت: أرسَلَ أزواجُ النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" فاطِمَةَ بنْتَ رسولِ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" إلى رسُولِ اللهِ "صلى الله عليه وسلم"، فاستأذَنَتْ عليه وهو مُضْطَجِعٌ مَعِيَ في مِرْطِي، فأذِنَ لها، فقالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ أزواجَكَ أرْسَلْنَنِي إليكَ يسْألْنَكَ العدْلَ في ابنَةِ أبي قُحافَةَ، وأنا ساكِتَةٌ، قالت: فقال لها رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «أيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحبِّينَ ما أُحِبُّ؟»، فقالت: بَلى، قال: «فأَحِبِّي هذِهِ». فرجَعَت إلى أزواجِ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" فأخبَرَتْهُنَّ بالذي قالت، وبالذي قال لها رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم". فقالت فاطِمَةُ: واللهِ لا أُكَلِّمُهُ فيها أبَدَاً[[٣]].

[٣] المرط: الكساء واللحاف. وقولها «لا أُكَلِّمُهُ فيها أبَدَاً»؛ أي لا أراجعه في أمرٍ يُسيء لعائشة أبداً.

وعن عمرو بن العاص، قال: أتيْتُ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم"، فقُلتُ يا رسولَ الله: أيُّ الناسِ أحَبُّ إليكَ؟ قال: «عائِشَةُ». فقلتُ: من الرِّجالِ؟ فقال: «أبُوها» متفق عليه.

وعن عائشة، أن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" ذكَرَ فاطِمَةَ، قالَت: فتكلمتُ أنا، فقال "صلى الله عليه وسلم": «أمَا ترضَينَ أن تَكوني زوجَتِي في الدُّنيا والآخرِة ؟» قلتُ: بلى والله! قال: «فأنتِ زوجتي في الدُّنيا والآخرِة»[[٤]].

[٤] أخرجه ابن حبان، والحاكم، السلسلة الصحيحة: ٣٠١١.

وعنها، قالت: قال لي رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «إنه لَيُهَوِّنُ عليَّ الموتَ إن أُرِيْتُكِ زوجتي في الجنَّةِ»[[٥]].

[٥] رواه الحُسين المروزي في زوائد الزهد، السلسلة الصحيحة: ٢٨٦٧.

وعنها، قالت: أن جبريل جاء بصورتها في خِرقَةِ حَريرٍ خضراء إلى النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" فقال: «هذه زوجَتُكَ في الدُّنيا والآخِرَةِ»[[٦]].

[٦] صحيح سنن الترمذي: ٣٠٤١.

وعن هِشام بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" لما كانَ في مرَضِهِ، جعلَ يدورُ في نِسائِه، ويقول: «أينَ أنا غداً، أينَ أنا غداً»؛ حِرصاً على بيتِ عائشةَ، قالت عائِشَةُ: فلمَّا كانَ يومِي سَكَنَ" متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: عَن عائِشَة قَالَت: إِن كَانَ رَسُولُ الله "صلى الله عليه وسلم" لَيَتَفَقَدُ يَقُولُ: «أَينَ أَنا اليَومَ؟ أينَ أنا غَدَاً؟» استِبطَاءً لِيَومِ عائِشَةَ، قَالَت: فَلَمَّا كَانَ يَومِي قَبَضَهُ اللهُ بَينَ سَحْرِي وَنَحْرِي[[٧]].

[٧] السَّحْر: الرئة، وقيل السَّحْر ما لَصِقَ بالحُلقوم من أعلى البطن؛ أي أنه مات وقد ضمَّته بيديها إلى نحرها وصدرها «النهاية».

وعن أبي موسى، قال: ما أشْكَلَ علينا أصحابُ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" حديثٌ قَطْ، فَسَألْنا عائشةَ إلا وجَدنَا عِندها مِنه عِلماً[[٨]].

[٨] صحيح سنن الترمذي: ٣٠٤٤. قلت: فيه أن الرجال يطلبون العلم الشرعي من المرأة، إن كان عندها من العلم ما ليس عندهم.

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: دخلتُ على عائشةَ "رضي الله عنها"، فقالت لي: كانَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول لي: «أَمْرُكُنَّ مما يَهُمُّني بعدي، ولن يَصبِرَ عليكُنَّ ـ وفي رواية: لا يحنو عليكُنَّ مِن بعدي ـ إلا الصَّابرون». ثم قالت: فسَقَى اللهُ أباكَ من سلْسَبيل الجنة، وكان عبد الرحمن بن عوف قد وصلَهُنَّ بمال، فبيع بأربعين ألف[[٩]].

[٩] أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة: ١٥٩٤.

وعن أبي هريرة، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: «خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهلِي من بَعْدِي»[[١٠]].

[١٠] أخرجه البزار وغيره، السلسلة الصحيحة: ١٨٤٥. والخيرية الواردة في الحديث يُراد منها مطلق الخير المادي منه والمعنوي، والذي منه موالاتهم، والترضي عليهم، وأن لا يُذكروا إلا بالخير .. ولا شك أن من أكثر الناس دخولاً في معنى «أهل بيت النبي "صلى الله عليه وسلم"» نساؤه؛ أمهات المؤمنين "رضي الله عنهنَّ أجمعين".

وعن عائشةَ، قالت: لما رأيتُ من النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" طِيبَ النَّفْسِ، قلت: يا رسُولَ الله! ادعُ اللهَ لي، قال: «اللهُمَّ اغْفِرْ لعائِشةَ ما تقَدَّمَ مِن ذَنْبِها وما تأخَّرَ، وما أسَرَّت وما أعلَنَتْ»[[١١]].

[١١] أخرجه البزار في مسنده، السلسلة الصحيحة: ٢٢٥٤.

عن عمران بنِ حُصَينٍ "رضي الله عنه" قال: قالَ رَسُولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «خَيرُ أُمَتِي قَرْني، ثُمَّ الذِينَ يَلونَهُم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثُمَّ إنَّ بَعدَكُم قَوماً يَشهَدُونَ وَلا يُستَشهَدونَ، وَيَخُونون ولا يُؤتَمَنونَ، ويَنذُرُون ولا يَفُونَ، ويَظهَرُ فيِهم السِّمَنُ»[[١]] متفق عليه.

[١] قوله «خَيرُ أُمَتِي قَرْني، ثُمَّ الذِينَ يَلونَهُم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم»؛ أي خير أمتي الصحابة، ثم التابعين لهم، ثم تابعي التابعين. والخيرية يُراد منها خيرية الدين، والعلم، والفهم، والاستقامة. والقَرْن يُطلق على كل مائة عام، وقيل هو الذي يشمل عمر جيل من الأجيال.

وقوله «يَشهَدُونَ وَلا يُستَشهَدونَ»؛ أي يُعطون الشهادة لخفة ذمتهم وقلة أمانتهم من دون أن تُطلب منهم، ومن دون أن يتحروا المواضع التي ينبغي أن تُعطى فيها الشهادة، من المواضع التي ينبغي أن يُمسك فيها عن الشهادة! وقوله: «ويَظهَرُ فيِهم السِّمَنُ»؛ أي يطلبون أنواع وألوان الأطعمة، فتظهر فيهم السُّمنَةُ والبدانة.

وعن عبد الله بن مسعود، أنَّ رَسُولَ اللهِ "صلى الله عليه وسلم" قال: «خَيرُ النَّاسِ قَرنِي، ثُمَّ الَّذينَ يَلونَهُم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثُمَّ يَجِيءُ قَومٌ تَسبِقُ شِهَادَةُ أَحَدِهِم يَمينَهُ، ويَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[[٢]] متفق عليه.

[٢] قوله «تَسبِقُ شِهَادَةُ أَحَدِهِم يَمينَهُ، ويَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»؛ أي لخفة ورقة دينه لا يُبالي أن يُسرع في إعطاء الأيمان قبلاً أم الشهادة قبل الأيمان .. وبحسب ما يُطلب منه .. ويُدفَع له .. حيث أننا في زمان يوجد فيه من يحترف ويعمل على أبواب المحاكم الوضعية كشاهد زور .. يبيع شهادته لمن يطلبها ويحتاجها

ومن لوازم الشهادة ـ كما هو معلوم ـ أن يُقسم بالأيمان المغلظة بعد أن يضع يده على القرآن الكريم أنه فيما يقول لمن الصادقين العارفين .. ويكون الثمن أو الأجر بحسب نوع وأهمية وخطورة القضية التي سيشهد عليها .. وهذا كله يأتي مصداقاً لقوله "صلى الله عليه وسلم" أعلاه.

وعن أبي هريرة قال: قالَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «خيرُ أمَّتِي القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم ـ واللهُ أعلَم أذَكَرَ الثَّالِثَ أم لا ـ ثمَّ يَخْلُفُ قومٌ يُحبونَ السَّمانَةَ، يَشْهَدُون قبلَ أن يُسْتَشْهَدُوا» مسلم.

وعن عائشةَ قالت: سألَ رجلٌ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم": أيُّ الناسِ خيرٌ؟ قال: «القَرْنُ الذي أنا فيه، ثُمَّ الثاني، ثمَّ الثالِثُ» مسلم.

وعن عمر بن الخطاب، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: «خيرُ النَّاسِ قَرنِي الذي أنا منهم، ثمَّ الذين يَلُونَهُم، ثمَّ الذين يَلُونَهُم، ثم يَنْشَأُ أقوامٌ يَفْشُوا فِيهم السِّمَنُ، يَشهَدُون ولا يُسْتَشْهَدُون، ولهم لَغَطٌ في أسواقِهم»[[٣]].

[٣] أخرجه البزار في "البحر الزخار"، السلسلة الصحيحة: ٣٤٣١. وقوله «ولهم لَغَطٌ في أسواقِهم»؛ أي لهم صخَبٌ، فأصواتهم مختلطة ومرتفعة في أسواقهم، بحيث لا يُفهم معناها.

عن جابر بن سمرة، قال: خطَبَنا عمرُ بن الخطاب بالجابِيَةِ، فقال: إن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قامَ فينا مقامي فيكم، فقال: «احفظُوني في أصحابي، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يلونَهُم، ثم يَفْشُوا الكَذِبَ، حتى يَشهَدَ الرجلُ، وما يُسْتَشْهدُ، ويَحْلِفَ وما يُسْتَحْلَفُ»[[٤]].

[٤] أخرجه ابن ماجه وغيره، السلسلة الصحيحة: ١١١٦. الجابية: موضع؛ وهو الحوض الذي يُجبى فيه الماء. وقوله «احفظُوني في أصحابي»؛ أي احفظوا وأدوا واعرفوا حقي عليكم، بمراعاة حق أصحابي عليكم، فمن راعى وأدى حقهم عليه، فقد حفظ حقي عليه، ومن فرَّط بحق أصحابي عليه فقد فرَّط بحقي ولم يحفظ حقي عليه .. ثم تكون هذه المراعاة بالترتيب للذين يلون الصحابة من التابعين .. ثم الذين يلون التابعين من تابعي التابعين .. ثم بعد ذلك يفشو الكذب .. والغدر .. وتُفقد الأمانة .. حتى يُقال في بني فلان رجل أمين!

وقوله «ويَحْلِفَ وما يُسْتَحْلَفُ»؛ أي يُسرع في حلف الأيمان المغلَّظة كاذباً من دون أن يُطلب منه أن يحلف ليُصدَّق فيما يزعم ويقول!

وعن عمر "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «أكرموا أصحابي، فإنَّهم خيارُكم، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم يَظْهَرُ الكَذِبُ حتى إنَّ الرجلَ ليحْلِفُ ولا يُسْتَحْلَفُ، ويَشْهَدُ ولا يُسْتَشْهَدُ»[[٥]].

[٥] رواه النسائي، وأحمد، والحاكم، وصححه الشيخ ناصر في تحقيقه لمشكاة المصابيح: ٦٠٠٣.

وعن عبد الله بن بِسر قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «طُوْبَى لِمَنْ رآني، وطُوبى لِمَن رأَى مَن رآني، ولِمَن رأى مَن رأى مَن رآني وآمَنَ بِيَ»[[٦]].

[٦] أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة: ١٢٥٤.

وعن واثِلَة بنِ الأَسْقَع، قال: قالَ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «لا تَزالُونَ بخيرٍ مادامَ فيكُم من رآني وصاحبني، واللهِ لا تزالون بخيرٍ مادامَ فيكم من رَأى من رآني وصاحَبَ من صاحَبَنِي، والله لا تزالون بخيرٍ مادامَ فيكُم مَنْ رأى مَنْ رأى مَن رآني، وصاحَبَ مَن صَاحَبَ مَن صاحَبَنِي»[[٧]].

[٧] أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف، السلسلة الصحيحة: ٣٢٨٣. قوله «لا تَزالُونَ بخيرٍ»؛ أي في دينكم .. لوجود العلماء القريبين من عهد النبوة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. ويُصلحون إذا ما فسد الناس .. ثم بعد القرن الثالث؛ وهو قرن تابعي التابعين .. يفشو الكذب .. وتفشو البدع والأهواء .. لغياب من يقوم بواجب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العلماء كما كان في القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخير.

قلت: مجموع هذه الأحاديث وغيرها هي التي تُلزمنا بأن نقول: بأن السلف الصالح هم الأحكم والأسلم علماً وفهماً ومنهجاً واعتقاداً من الخلَف .. وليس كما يقول بعض أهل الرأي والبدع بأن السلف أسلم لكن الخلَف أحكم .. ساء ما يقولون.

كما أن هذه الأحاديث تُلزمنا بأن نقدم فهم وقول السلف الصالح بحسب ترتيب تواجدهم في القرون الثلاثة الأولى؛ فنقدم فهم وقول من عاش من العلماء في القرن الأول على فهم وقول من عاش في القرن الثاني، ومن عاش في القرن الثاني على من عاش في القرن الثالث، ومن عاش في القرن الثالث على من جاء بعدهم من الخلف والمتأخرين

وهذا كله في حال غياب النص من الكتاب أو السنة الذي يمكننا من ترجيح قول أو فهم على آخر .. أما في حال وجود النص الصحيح الصريح .. حينئذٍ لا يجوز الالتفات أو العدول عنه إلى قولٍ آخر أياً كان صاحب هذا القول .. وكانت مكانته .. سواء كان من السلف أم من الخلف.

وعن ابن عباس، قال: قال رسُولُ الله "صلى الله عليه وسلم": «تَسْمَعُونَ ويُسْمَعُ مِنْكُم، ويُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُم»[[٨]].

[٨] صحيح سنن أبي داود: ٣١٠٧.

قلت: دلَّ هذا الحديث على جملة من المعاني والدلالات، منها: أن العلم يُؤخذ بالسند، وبالسند الصحيح المتصل بالنبي "صلى الله عليه وسلم". ومنها: أن السند يثبت بالسمع المباشر من المتحدَّثِ إليه إلى المتحدِّث.

ومنها: أنَّ الصحابة "رضي الله عنهم" هم حلقة الوصل الأولى بين النبي "صلى الله عليه وسلم" وبين الأجيال التالية بعدهم؛ فإذا فُقدت هذه الحلقة أو تم تجريحها وإسقاطها ـ كما يفعل دعاة الهدم من الشيعة الروافض ـ فقدت الأمة صلتها بالنبي "صلى الله عليه وسلم"، وصلتها بالعلم الصحيح.

ومنها: ثبوت عدالة الصحابة والتابعين لهم من القرن أو الجيل الثاني ممن عاصر الصحابة ولم ير النبيَّ "صلى الله عليه وسلم"، بشهادة النبي "صلى الله عليه وسلم" لهم بأنهم يَسمعون، ويُسمِعون من بعدهم .. فهذه الشهادة بمثابة إجازة من النبي "صلى الله عليه وسلم" لهم بأن ينقلوا العلم لمن بعدهم، وأنهم أمناء وعدول فيما ينقلونه بالسند عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه.

وصلى الله على محمد النبيِّ الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.