القرآن الكريم المصحف الإلكتروني إذاعات القرآن صوتيات القرآن أوقات الصلاة فهرس الموقع

حقُّ الله

اعلم أن أوكد الحقوق على العباد هو حق الله تعالى عليهم، فلأجله خلق الله الإنس والجان، وخلق السماوات والأرض، وهو الغاية من الوجود كل الوجود، لذا كان التفريط بهذا الحق تفريط بالغاية من الوجود، وهو أشد أنواع الظلم، وصاحبه يستحق أشد أنواع العذاب، كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لقمان:١٣.

وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } النساء:٤٨.

ومن ضروب الشرك الأكبر، والعبودية لغير الله تعالى – وما أكثر الواقعين فيه – شرك الطاعة، والاتباع، والتحاكم، كما قال تعالى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } الأنعام:١٢١.

أي إن أطعتموهم في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }؛ أي لعابدون لهم من دون الله.

وقال تعالى: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } الكهف:٢٦.

وقال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } يوسف:٤٠.

لذا كان الرضى بحكم غير الله قرينة دالة على النفاق وانتفاء مطلق الإيمان من القلب، مهما زعم صاحبه ـ بلسانه ـ خلاف ذلك، كما قال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } النساء:٦٥.

وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } النساء:٦٠.

وكل حكم غير حكم الله فهو طاغوت، وكل شرع غير شرع الله فهو طاغوت، وكل حاكم يستحسن الحكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت، وكل مطاع لذاته من دون الله ـ وهو راضٍ بذلك ـ فهو طاغوت؛ حيث أن المطاع لذاته هو الله تعالى وحده؛ وما سواه تكون طاعتهم من طاعة الله واستجابة لأمره "جل جلاله" .. فتنبه لدينك ونفسك ـ يا عبد الله ـ فإن الأمر جد خطير.

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} النساء:٣٦.

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات:٥٦. [١]

[١] نفي بعده أداة استثناء تفيد الحصر والقصر؛ أي لم يخلق الله الجن والإنس لشيءٍ "إلا" لغاية واحدة فقط؛ وهي أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً .. والمراد من العبادة هنا العبادة الشاملة لجميع ما يحبّه الله "جل جلاله" ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة .. والشاملة لجميع المساحة الزمنية التي يعيشها الإنسان، من المهد إلى اللحد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام:١٦٢-١٦٣.

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة:٣١. [٢]

[٢] يُقال في هذه الآية كذلك ما قيل في الآية التي قبلها؛ أي أن الله تعالى لم يأمر العباد بشيء، ولم يلزمهم بشيء، ولا يريد منهم شيئاً إلا شيئاً واحداً فقط، وهو أن يعبدوه سبحانه ولا يشركوا به شيئاً .. طلبٌ سهل لمن سهله الله له .. ومع ذلك فالأقل هم الذين يؤدونه .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} البينة:٥.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور:٥٥. [٣]

[٣] الاستخلاف في الأرض، والتمكين بعد ضعف، واستبدال الخوف بالأمن والأمان .. كل هذا الخير والعطاء والمَن مقابل {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ... وعليه فقد خاب وخسر من يطلب النصر والتمكين للأمة عن غير طريق تحقيق التوحيد، والالتزام بالتوحيد .. وما أكثر التجارب المعاصرة التي باءت بالفشل لتنكبها هذا الطريق، وعدم اكتراثها به.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء:٢٥.

قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} العنكبوت:٥٦.

قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} النحل:٣٦.

وفي الحديث، عن معاذ بن جبل، قال: قال النبي "صلى الله عليه وسلم": "يا معاذ أتدري ما حقُّ الله على العباد؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حقهم عليه؟" قال: الله ورسولُه أعلم. قال: "أن لا يعذبهم"[[٤]].

[٤] ومن لا يعذبه يُدخله جنَّته؛ فالمنازل يوم القيامة منزلان لا ثالث لهما: إما عذاب وجحيم، وإما نعيم وجنان.

وعن جابر، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ثنتان موجبتان[[٥]]" قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: "من مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يُشرك بالله شيئاً دخل النار".

[٥] أي توجبان على صاحبهما ما يستحق من وعد أو وعيد.

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تدعو مع الله نداً[[٦]] وهو خلقَك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتلَ ولدَك خشيةَ أن يَطعمَ معك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تُزاني حَلِيلَةَ [[٧]]جارِك".

[٦] أي مثيلاً ونظيراً؛ ومن صور ذلك أن تصف مخلوقاً ـ أياً كان شأن هذا المخلوق ـ بصفة هي من صفات وخصوصيات الله تعالى وحده؛ كأن تجعل أمر التشريع والتحليل والتحريم حقاً خالصاً لشخص معين، أو هيئة، أو مجلس .. من دون الله عز وجل .. أو أن تجعل إنساناً معيناً فوق المساءلة والمعاتبة فيما يفعل ويصدر عنه .. بينما الذي لا يُسأل عما يفعل هو الله تعالى وحده .. أو أن تعتقد في مخلوق معين أنه يعلم الغيب .. أو أنه يكشفُ الضر ويجلب النفع من دون الله .. بينما الذي يعلم الغيب .. ويكشف الضر ويجلب النفع هو الله تعالى وحده، كما قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الأنعام:٥٩. وقال تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} يونس:٢٠. وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} النمل:٦٥.

[٧] أي زوجة جارك.

وعن أبي هريرة، قال: أتى أعرابي النبيَّ "صلى الله عليه وسلم"، فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: "تعبدُ اللهَ ولا تُشرك به شيئاً، وتقيمُ الصلاةَ المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصومُ رمضانَ"، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه. فلما ولى، قال النبي "صلى الله عليه وسلم": "من سرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهلِ الجنَّةِ، فلينظر إلى هذا" متفق عليه.

وعن أنس، أن النبي "صلى الله عليه وسلم"، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسولَ الله و سعديك، قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ـ ثلاثاً ـ قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صِدقاً من قلبه[[٨]]، إلا حرمه الله على النار". قال: يا رسول الله! أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: "إذاً يتَّكلوا[[٩]]". فأخبرهم بها معاذ عند موته تأثماً[[١٠]].

[٨] من مستلزمات الصدق أن لا يأتي بما ينافي شهادة التوحيد وينقضها بقولٍ أو فعلٍ أو اعتقاد.

[٩] أي يتكلوا على شهادة التوحيد، ويتركوا العمل؛ فيهلكوا.

[١٠] أي خشية أن يقع في إثم كتمان العلم، والحديث متفق عليه.

وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من شهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبدُه ورسولُه، وأن عيسى عبدُ الله ورسولُه، وابنُ أَمَتِه وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، والجنة والنار حق، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من العمل[[١١]]".

[١١] أي على ما أسلف من عمل؛ ما لم يكن هذا العمل ـ فعله أو تركه ـ كفراً وشركاً، والحديث متفق عليه.

وعن معاذ، قال: قلت يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. قال: "لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبدُ الله ولا تُشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت". ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنَّةٌ، والصدقةُ تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار[[١٢]]، وصلاة الرجل في جوف الليل". ثم قال: "ألا أدلك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه؟" قلت بلى يا رسول الله، قال: "رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة[[١٣]]، وذروةُ سَنامه الجهاد". ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قلت: بلى يا نبيَّ الله! فأخذ بلسانه فقال: "كُفَّ عليك هذا[[١٤]]". فقلت يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يُكِبُّ الناسَ في النارِ على وجوههم، أو على مناخرهم، إلاحصائدُ ألسنتهم[[١٥]]".

[١٢] أي تمحو الخطيئة، وتزيل آثارها، كما يفعل الماء بالنار.

[١٣] وبناء بلا عمود و أساس لا يقوم ولا يتماسك؛ لذلك فقد صح عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أن تارك الصلاة كافر.

[١٤] أي احفظ عليك لسانك من أن ينطق إلا بحق أو صدق، وجنبه قول الزور، والغيبة والنميمة.

[١٥] رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، مشكاة المصابيح:٢٩.

وعن أبي الدرداء قال: أوصاني خليلي[[١٦]]: "أن لا تُشرِك بالله شيئاً وإن قُطِّعتَ أو حُرِّقت[[١٧]]، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر؛ فإنها مفتاحُ كلِّ شرٍّ"[[١٨]].

[١٦] فيه جواز خلة الأدنى للأعلى، بينما خلة الأعلى للأدنى فهي ممتنعة ومنتفية إلا بنص كثبوت خلة الله تعالى لنبييه إبراهيم ومحمد عليهما وعلى جميع الأنبياء والرسل أفضل الصلاة والسلام، وعليه يجوز للعبد أن يقول: محمد "صلى الله عليه وسلم" خليلي .. لكن لا يجوز أن يقول أنا خليل محمد "صلى الله عليه وسلم"؛ فالخلة من الصحابة للنبي "صلى الله عليه وسلم" ثابتة، بينما خلة النبي "صلى الله عليه وسلم" لأصحابه ولمن هم دونهم من المؤمنين منتفية، وإنما الثابت الصحبة والمحبة والأخوة والموالاة، فقد صح عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكرٍ، ولكن أخوة الإسلام ومودته" البخاري.

[١٧] فيه أن الأخذ بالعزيمة أولى من الأخذ بالرخصة، إذا كان الإكراه على الكفر والشرك.

[١٨] رواه ابن ماجه، والبيهقي، صحيح الترغيب والترهيب:٥٦٦.

وعن أنسٍ، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجَد حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبه إلا لله، وأن يَكره أن يعودَ في الكفرِ بعد أن أنقذه الله منه كما يَكرهُ أن يُقذَفَ في النار" متفق عليه.

وعن ابن عباس، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "أوثقُ عُرى الإيمان: الموالاةُ في الله، والمعاداةُ في الله، والحبُّ في الله، والبُغضُ في الله"[[١٩]].

[١٩] أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الجامع الصغير:٢٥٣٩.

كلُّ ذنبٍ يُذنبه العبد، يُترك لمشيئة الله تعالى؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، عدا الإشراك بالله فإن الله لا يغفره[[١]].

[١] هذا محمول على الموافاة؛ أي إن مات على الشرك والكفر؛ أما إن تاب من الشرك والكفر قبل أن يموت فتوبته تُقبل وتنفعه، وتجب ما كان قبلها بما في ذلك الشرك.

قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } النساء:٤٨.

وفي الحديث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئاً، ولا تَسرقوا، ولا تَزْنوا، ولا تقتلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا[[٢]] في معروفٍ. فمن وفىَّ منكم فأجره على الله، ومن أصابَ من ذلك شيئاً فعُوقِب به في الدنيا، فهو كفَّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه في الدنيا، فهو إلى الله إن شاءَ عفا عنه وإن شاء عاقبَهُ"، فبايعناه على ذلك. متفق عليه.

[٢] أي الأمير المسلم، أو من يُولى ـ من المسلمين ـ على شؤون المسلمين؛ فهذا تجب طاعته مادام يأمر بالمعروف، أما إذا أمر بأمرٍ فيه معصية لله تعالى فلا طاعة له؛ فلا طاعة لمخلوقٍ ـ أياً كان ـ في معصية الخالق "سبحانه وتعالى".

وعن ابن عباس، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "قال الله تعالى: من عَلِمَ أني ذُو قدرةٍ على مغفرة الذنوب غفرتُ له ولا أبالي، ما لم يُشرك بي شيئاً"[[٣]].

[٣] رواه الطبراني، والحاكم، صحيح الجامع الصغير: ٤٣٣٠.

وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "قال الله تعالى: يا ابن آدم! مهما عبدتني ورجوتني ولم تُشرك بي شيئاً غفرتُ لك على ما كان منك[[٤]]، وإن استقبلتني بملء السماءِ والأرض خطايا وذنوباً استقبلتك بملئهنَّ من المغفرة، وأغفر لك ولا أبالي"[[٥]].

[٤] أي على ما كان منك من تقصير، وعملٍ غير صالح.

[٥] رواه الطبراني، صحيح الجامع الصغير: ٤٣٤١.

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرضه أو شيءٌ فليتحلَّلْه منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالِحٌ أُخِذَ منه بقدر مظلمَته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه" البخاري.

وعنه، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "لتؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادُ للشاةِ الجلحاء[[١]] من الشاة القَرناء" مسلم.

[١] هي الشاة التي ليس لها قرون. وقد سُئلت عن النملة التي تبغي على أختها، هل ستُحاسَب يوم القيامة؟ أقول: نعم ستُحاسَب هي وغيرها من الدواب مهما صغُرت أو كبرت .. فيُنتصف للمظلوم منها من الظالم .. هذا الذي دلت عليه أدلة الكتاب والسنة .. وهذا الذي يقتضيه العدل الإلهي المطلق، وتقتضيه أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا "سبحانه وتعالى".

وعنه، أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "أتدرونَ ما المفلِسُ؟" قالوا: المفلِسُ فينا من لا دِرهمَ له ولا متاعَ. فقال: "إن المُفلسَ من أمتي، مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضَربَ هذا، فيعُطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناته، فإن فَنيَت حسناتُه، قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذ من خطاياهُم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النار" مسلم.

قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الزمر:٦٥.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام:٨٨.

وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} المائدة:٥.

وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} الفرقان:٢٣.

وفي الحديث، عن عائشة "رضي الله عنها"، قالت: قلت يا رسول الله ابن جَدْعَان كان في الجاهلية يَصلُ الرحمَ، ويُطعِمُ المسكين، فهل ذلك نافِعُهُ؟ قال: "لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً: ربِّ اغفر لي خطيئتي يومَ الدين" "صلى الله عليه وسلم" مسلم.

وعن أنس بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مؤمناً حَسَنةً؛ يُعطِي بها في الدُّنيا، ويَجزِي بها في الآخِرَةِ، وأمَّا الكافِرُ فيُطْعَمُ بحسناتِ ما عَمِلَ بها للهِ في الدُّنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخِرةِ لم تَكُنْ لهُ حسنَةٌ يُجْزَى بها" مسلم.

وعن أبي هريرة، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "لا يَجتَمِعُ الإيمانُ والكُفرُ في قلبِ امرئٍ"[[١]].

[١] أخرجه ابن وهب في الجامع، السلسلة الصحيحة: ١٠٥٠. قلت: دل الحديث على استحالة اجتماع الإيمان النافع ـ الذي ينفع صاحبه يوم القيامة ـ والكفر في قلب امرئٍ واحد، فالقول بإمكانية اجتماعهما في قلب واحد كالقول بإمكانية اجتماع الشيء وضده في آنٍ معاً، وهذا مخالف للنقل والعقل، وعليه فإن وجود الإيمان النافع في القلب يلزم منه بالضرورة انتفاء الكفر، والعكس كذلك؛ إذا حلَّ الكفر في القلب انتفى الإيمان مباشرة، فوجود أحدهما يلزم منه انتفاء الآخر ولا بد .. لكن الذي يمكن قوله هنا: أن الإيمان النافع يمكن أن يجتمع مع الشرك الأصغر أو الكفر الأصغر أو الكفر دون كفر في قلب واحد، ومثاله المؤمنون الموحدون العصاة الذي يقترفون بعض الذنوب والكبائر التي هي دون الكفر أو الشرك الأكبر .. فأمثال هؤلاء إيمانهم ينفعهم يوم القيامة، بالنص والإجماع، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الخوارج الذين يكفِّرون بكبائر الذنوب التي هي دون الكفر الأكبر .. وشذوذهم هذا باطل لا يؤبه له، ولا يُلتفت إليه، لمخالفته للنص والإجماع.

فإن قيل: كيف نوفق بين ما تقدم تقريره بعدم إمكانية اجتماع الإيمان والكفر في قلبٍ واحد، وبين قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف:١٠٦. فظاهر الآية أنهم آمنوا بالله وهم مشركون، فاجتمع في قلب أحدهم إيمانٌ وشِرك ..؟

أقول: هؤلاء آمنوا أو صدقوا بالربوبية وأشركوا بالألوهية؛ آمنوا بأن الله "جل جلاله" هو الخالق، لكن لم يؤمنوا بأن الله "جل جلاله" هو المعبود بحق في الأرض وفي السماء، لا شريك له في ألوهيته، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} العنكبوت:٦١.

وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لقمان:٢٥.

فهؤلاء آمنوا بأن الله "جل وعلا" هو الخالق، لكنهم في العبادة عبدوا آلهة أخرى أو أشركوها في العبادة مع الله .. وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الزمر:٣.

لذلك لما أرادوا أن يجمعوا بين النقيضين؛ بين الإيمان بالربوبية والشرك في الألوهية في آن واحد، قال تعالى عنهم: {فَأَنَّى يُؤْفَكُون}. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}. إذ كيف يؤمنون بالربوبية ثم يُشركون في الألوهية فهذا صنيع وخلق المكذبين الذين لا يعلمون أن الإيمان بالربوبية من لوازمه الإيمان بالألوهية. وإيمان كهذا الإيمان لا ينفع صاحبه يوم القيامة، كما لا يجوز أن يُسمى صاحبه مؤمناً؛ لأن الشرك في الألوهية وفي العبادة يُحبطه ويُبطله .. ويبطل غيره من الأعمال .. ونحن حديثنا أعلاه عن استحالة اجتماع الإيمان النافع ـ الذي يُسمى صاحبه مؤمناً ـ مع الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر في قلب امرئٍ واحد، فتنبه لهذا!

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لكلِّ نبي دعوةٌ مُستجابةٌ، فتعجَّلَ كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يومَ القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله من ماتَ من أمتي لا يُشرك بالله شيئاً"[١] مسلم.

[١] حتى وإن كان من ذوي الذنوب والمعاصي وممن اقترفوا في حياتهم الكبائر، شريطة أن لا ترقى هذه الكبائر درجة الكفر أو الشرك. كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} النساء:٤٨.

وعن ابن عباس قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "أُعطيتُ الشَّفاعة؛ وهي نائلةٌ من لا يُشرك بالله شيئاً"[[٢]].

[٢] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: ٨٠٣.

وعن أبي هريرة، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "أسعدُ الناسِ بشفاعتي يومَ القيامةِ؛ من قال لا إله إلا الله، خالِصاً من قلبه" البخاري.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} الأعراف:١٧٢-١٧٣.

وفي الحديث، عن أنس، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "يقولُ الله لأهونِ أهل النارِ عذاباً يوم القيامة[[١]]: يا ابنَ آدم كيف وجدت مَضجعَك؟ فيقول شَرَّ مضجعٍ، فيُقال له: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول نعم، فيقول: كذبت وقد أردتُ منك أهونَ من هذا وأنت في صِلب آدم أن لا تُشرِك بي شيئاً ولا أُدخلك النار، فأبيت إلا الشركَ، فيُؤمر به إلى النار" متفق عليه.

[١] الراجح أن المراد هو أبو طالب عم النبي "صلى الله عليه وسلم"، لورود النصوص الصحيحة أن أبا طالب هو أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة، كما في صحيح مسلم: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نارٍ يغلي منهما دماغه". وفيه أن الله لا يعذب أحداً من عباده إلا بعد قيام الحجة عليهم من جهة الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء:١٥. وإذا كان أهون أهل النار عذاباً ـ وهو أبو طالب ـ قد قامت عليه الحجة النبوية؛ وقد أقامها عليه شخص النبي "صلى الله عليه وسلم"، فمن باب أولى أن من كان أشد منه عذاباً يوم القيامة أن تكون حجة الرسل قد بلغته وقامت عليه، والمسألة قد أوفيتها بحثاً في كتابي "العذر بالجهل وقيام الحُجَّة" فليراجعه من شاء.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "يُؤتى بالعبد يوم القيامة، فيُقَال له: ألم نجعلْ لك سمعاً، وبصَراً، ومالاً، وولداً، وسخَّرتُ لك الأنعامَ والحرثَ، وتركتُكَ ترأسُ وتَرْبَعُ[[٢]] فكنت تظنُّ أنَّك مُلاقي يومَكَ هذا؟ فيقول: لا، فيقولُ له: اليومَ أنساكَ كما نسيتني" مسلم.

[٢] ترْبَعُ؛ أي تأخذ ربع الغنيمة، يُقال ربَعْتَ القومَ أربَعُهُم. يريد ألم أجعلك رئيساً مُطاعاً؛ لأن الملِك كان يأخذُ الرُّبعَ من الغنيمة في الجاهلية دُون أصحابه." النهاية".

التوحيدِ، وأطر العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن الإيمان بالطاغوت[[١]]إلى الإيمان بالله تعالى وحده.

[١] في معنى الطاغوت وما يدخل فيه، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين ١/٥٠: الطاغوت كل ماتجاوز به العبد حده من معبود او متبوع أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ا- هـ.

قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الأنفال:٣٩.

وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة:٢٩.

وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة:٢٥٦.

وفي الحديث، عن ابن عمر "رضي الله عنهما": أن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسولُ الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهُم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابُهم على الله" متفق عليه.

وعن أبي هريرة، عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بِي وبما جِئتُ به، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهم وأموالَهُم إلا بحقها، وحسابُهم على الله" مسلم.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لمعاذ بن جبل حين بعثَهُ إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً من أهلِ الكتاب؛ فإذا جئتهُم فادعهُم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهُم أنَّ الله قد فرضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرضَ عليهم صدقةً، تُؤخَذُ من أغنيائهم، فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإيَّاك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينَهُ وبين الله حجاب"[[٢]] البخاري.

[٢] كرائم أموالهم؛ أي أفضلها وأنفسها وأحبها إلى نفوسهم. ومما أفاده الحديث ضرورة ترتيب الأولويات في العملية الدعوية، وإعطاء التوحيد الأولوية وتقديمه عما سواه، سواء كان ذلك في الدعوة والتبليغ أو في الطلب والتعلّم.

عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "من وحَّدَ اللهَ "جل وعلا"، وكفرَ بما يُعبَدُ من دونه، حُرِّمَ مالُه ودمُه، وحسابُه على الله "جل وعلا"" مسلم.

وفي رواية: "من قال لا إله إلا الله، و كفَر بما يُعبَدُ من دون الله، حَرُمَ مالُه ودمُه، وحسابُه على الله" مسلم.

قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً[[١]] وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[[٢]]} الكهف:١١٠.

[١] العمل الصالح هو العمل الموافق للسنة.

[٢] هو إخلاص العمل والعبادة لله "جل جلاله" وحده. ومنه قال أهل العلم ـ وقولهم حق ـ : أن أي عبادة أو عمل يُتعبد به إلى الله تعالى، يجب أن يُتوفر فيه شرطان لينال القبول عند الله، أولهما: أن يكون موافقاً للسنة، والثاني: أن يكون خالصاً لله تعالى وحده؛ فإن اختل شرط منهما بطُل العمل، ورُدّ على صاحبه.

وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الكهف:٧.

قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}؛ أي أيهم أصوب وأخلص عملاً.

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الملك:٢.

أي أيُّكم أصوبُ وأخلَصُ عملاً.

وفي الحديث، عن أبي أمامة الباهلي، قال: جاء رجلُ إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" فقال: أرأيتَ رجلاً غزا يَلتمِسُ الأجرَ والذِّكرَ [[٣]] ما لَه؟ فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا شيءَ له"، ثم قال: "إن الله لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان له خالصاً وابتُغِيَ به وجهه"[[٤]].

[٣] أي السمعة والشهرة، وأن يتكلم عنه الناس.

[٤] رواه أبو داود، والنسائي، صحيح سنن النسائي: ٢٩٤٣.

وعن أبي هريرة، قال:قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "إن أوَّلَ الناسِ يُقضَى عليه يوم القيامة رجلُ استُشهد؛ فأُتي به فعرَّفَهُ نعمتَه فعرَفَها، فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ. قال: كذبتَ؛ ولكنك قاتلتَ لأن يُقال: جريء، فقد قِيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِي في النار. ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمَه، وقرأ القرآنَ، فأُتي به فعرَّفه نِعمَه فعرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العِلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن. قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلمَ ليُقال إنك عالم، وقرأتَ القرآن ليُقال هو قارئ، فقد قِيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجههِ حتى أُلقِي في النار. ورجلٌ وسَّعَ اللهُ عليه وأعطاه من أصناف المالِ كُلِّهِ، فأُتي به فعرَّفه نعمَه فعرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنفقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال: كذَبتَ، ولكنك فعلتَ ليُقال: هو جواد؛ فقد قِيل، ثم أُمر به فسُحِب على وجهه ثم أُلقي في النار" مسلم.

وعن محمود بن لبيد، أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركَ الأصغر". قالوا: وما الشركُ الأصغرُ يا رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم"؟ قال: "الرياء؛ يقول الله "جل جلاله" إذا جزى الناسَ بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء"[[٥]].

[٥] رواه أحمد، وغيره، صحيح الترغيب والترهيب: ٢٩.

وعن أبي هريرة، أنَّ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "قال الله "جل جلاله": أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عملَ لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشركَ"[[٦]].

[٦] رواه ابن ماجه وغيره، صحيح الترغيب: ٣١.

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة؛ ليوم لا ريب فيه، نادى مُنادٍ: من كان أشركَ في عمله لله أحداً، فليطلُب ثوابَه من عنده، فإن اللهَ أغنى الشركاءِ عن الشرك"[[٧]].

[٧] رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، صحيح الترغيب: ٣٠.

وعن الضحَّاك بن قيس قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "إنَّ الله يقول: أنا خيرُ شريكٍ؛ فمن أشرك بي أحداً فهو لشريكي. يا أيها الناس! أخلصوا الأعمالَ لله؛ فإن الله "جل جلاله" لا يقبلُ من العملِ إلا ما خَلُصَ له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم، وليس لله منه شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنه لوجوهكم، وليس لله منه شيء"[[٨]].

[٨] السلسلة الصحيحة: ٢٧٦٤.

وعن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" ذات يوم فقال: "أيها الناسُ! اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيبِ النَّملِ". فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيبِ النمل يا رسولَ الله! قال: "قولوا: اللهم إنَّا نعوذُ بك من أن نُشركَ بك شيئاً نعلمُه، ونستغفركَ لما لا نعلمه"[[٩]].

[٩] رواه أحمد، والطبراني، صحيح الترغيب: ٣٣.

فليحذر كلُّ امرئٍ لنفسه ودينه، وليراقِب نيَّتَه، ليُصلِح عَقدَها، فمناطُ الأمر كله على النيات؛ إذا صلحت صلح العمل، وإذا فسدت فسد العمل، كما في الحديث، عن عمر ابن الخطّاب "رضي الله عنه" قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَى، فمَن كانت هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورسولِه فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورسوُلِه، ومن كانت هِجرَتُهُ لِدُنيا يُصِيبُها، أو امرأةٍ يتَزَوَّجُها، فهِجْرَتُه إلى ما هاجَرَ إليه" متفق عليه.

نسألُ الله "جل وعلا" الإخلاصَ في القولِ والعَمل، وأن لا يكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يجنبنا الشِّرك ما كبر منه وما صغر، وما ظهر منه وما بطن، وأن يجعلنا من عباده الموحدين المخلصين .. وصلى اللهُ على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.