القرآن الكريم المصحف الإلكتروني إذاعات القرآن صوتيات القرآن أوقات الصلاة فهرس الموقع

حقُّ الوالدين

قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[[١]] وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} الإسراء:٢٣-٢٤.

[١] فإذا كان لا يجوز للمرء أن يقول لأبويه )أُفٍّ(؛ وهي أقل العبارات التي تنمُّ التضجر والامتعاض، والكراهية، فكيف بمن يتجرأ على ضربهما وسبهما لأتفه الأسباب .. فهذا لا يسأل عن سوء عاقبته .. والهلكة التي وقع فيها .. في دنياه قبل آخرته؟!     وفي الآونة الأخيرة، انتقلت إلينا عادة سيئة من الغرب الصليبي؛ وهي وضع الوالدين عند الكبر في مراكز العناية بالعجزة بعيداً عن أبنائهما وأحفادهما، هرباً من القيام بواجب الخدمة والرعاية نحوهما، هذا إذا لم يكن طاعة وامتثالاً لأوامر المرأة المدللة!

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا[[٢]]} النساء:٣٦.

[٢] قرن الله تعالى الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته وتوحيده؛ وهذا لعِظم فضلهما وحقهما على أبنائهما.

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لقمان:١٤-١٥.

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} العنكبوت:٨[[٣]].

[٣] في الآية دلالة على أنه ليس للوالدين ـ على عظم حقهما على الولد ـ أن يأمراه بما فيه معصية لله تعالى، فإن فعَلا فليس عليه أن يطيعهما؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في  معصية الخالق.     وكذلك لو أمراه بأن لا يقوم بالواجبات والفرائض الشرعية، كما يفعل كثيرُ من الآباء في هذا الزمان خشية على أبنائهم، وربما لأسباب أخرى واهية ومردودة .. يطلبون منهم عدم حضور الجمعة والجماعات في المساجد .. ولا أن يشهدوا مجالس العلماء ليطلبوا منهم العلم .. فهذا أيضاً لا يجوز له أن يطيعهما في ذلك، وإن غضبا؛ فمراعاة غضب الله أولى .. وتقديم طاعة الله أولى.

وفي الحديث، عن عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه"، قال: سألتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم"، قلتُ يا رسولَ الله! أيُّ العملِ أفضل؟ قال: "الصلاةُ على ميقاتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بِرُّ الوالدين". قلت: ثم أي؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله" متفق عليه.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه" قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "لا يُجزئُ ولدٌ والدَهُ إلا أن يجِدَهُ مملوكاً فيشتريَهُ فيُعتِقَهُ" مسلم.

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنه"، قال: جاء رجلٌ إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" فاستأذنَه في الجهاد، فقال: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" متفق عليه.

وفي رواية: عن أبي سعيد "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "ارجع إلى أبوَيكَ فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرَّهما"[[٤]].

[٤] رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم، صحيح الجامع الصغير: ٨٩٢. في الحديث: أن الجهاد إذا كان فرضاً كفائياً، قُدِّم بر الوالدين على الجهاد؛ لأن برهما فرض عين، والفرض العين يقدم على الفرض الكفائي، أما إذا تعين الجهاد ووجب النفير، قُدم الجهاد ولا بد. وفيه كذلك، أن الوالدين يُستأذنا في الجهاد التطوعي الكفائي، بخلاف ما إذا كان فرضاً فحينئذٍ لا يشترط إذنهما، والله تعالى أعلم.

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنه": أنَّ رجلاً أتى النبي "صلى الله عليه وسلم"، فقال: إني جئتُ أبايُعكَ على الهجرةِ، ولقد تركتُ أبوَيَّ يبكيان! قال: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما"[[٥]].

[٥] صحيح سنن النسائي: ٣٨٨١. والحديث يُحمل في حال كانت الهجرة مندوبة، وكان المرء يقدر على إظهار دينه في بلد إقامته، أما إذا تعينت الهجرة، فحينئذٍ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وعنه، قال: أقبَلَ رجلٌ إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فقال: أُبايعك على الهجرةٍ والجهادِ، أبتغي الأجرَ من الله، قال: "فهلْ من والديكَ أحدٌ حيٌّ؟"، قال: نعم؛ بل كلاهما حيٌّ. قال: "فتبتغي الأجرَ من الله؟"، قال: نعم. قال: "فارجعْ إلى والديكَ فأحسِن صُحبتَهُما"[[٦]]مسلم.

[٦] هذا الحديث وأمثاله ينبغي أن يُحمل عندما تكون الهجرة، وكذلك الجهاد فرضاً كفائياً أو سُنة يُندب لها .. أما إذا تعينت الهجرة أو الجهاد في سبيل الله فالفرض المتعلق بحق الخالق مقدم على الفرض المتعلق بحق المخلوق.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم"، قال: "رَغِمَ أنفُ[[٧]]، ثم رغِمَ أنفُ، ثمَّ رغِمَ أنفُ"، قِيل: من يا رسولَ الله؟ قال: "مَن أدركَ أبوَيه عند الكبر أحدَهما أو كِلَيهما، فلم يدخُل الجنةَ"[[٨]]مسلم.

[٧] أي لصق أنفه في الأرض، كناية عن الذل.

[٨] أي لم يدخل الجنة بخدمتهما وبرهما والإحسان إليهما .. مستغلاً فرصة وجودهما أو وجود أحدهما عنده!

وعن جابر بن سمرة "رضي الله عنه"، قال: صعدَ النبيُّ "صلى الله عليه وسلم" المنبرَ فقال: أتاني جبريل "عليه السلام" فقال: يا محمد! من أدرَكَ أحدَ أبويه فمات فدخل النار[[٩]]، فأبعدَهُ الله، قل: آمين، فقلت: أمين .."[[١٠]].

[٩]  أي أنه لم يحسن استغلال وجودهما عنده بالإحسان إليهما وبرهما، فيدخل بذلك الجنة، فهي فرصة قد فوتها .. ولا يفوتها إلا كل غبي خاسر!

[١٠] أخرجه الطبراني صحيح الترغيب: ٢٤٩١. قلت: قد خاب وخسر من اجتمع عليه دعاء جبريل ومحمد "صلى الله عليه وسلم".

وفي رواية من حديث أبي هريرة "رضي الله عنه": "ومن أدرك أبَوَيه أو أحدهما، فلم يبرُّهما فمات، فدخلَ النار، فأبعده الله، قل:آمين. فقلت: "آمين"[[١١]].

[١١] أخرجه ابن حبان، صحيح الترغيب والترهيب: ٢٤٩٢. 

وفي رواية من حديث ابن عباس "رضي الله عنهما": "ومن أدركَ والديهِ أو أحدَهُما فلم يبرَّهما؛ دخلَ النارَ، فأبعدَهُ اللهُ وأسحَقَهُ. قلت: آمين"[[١٢]].

[١٢] أخرجه الطبراني، صحيح الترغيب: ٢٤٩٥.

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "رِضا الله في رِضا الوالِد، وسخَطُ اللهِ في سَخَطِ الوالِد"[[١٣]].

[١٣] أخرجه الترمذي وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٠١. قلت: لفظ الوالد هنا يُحمَل على الوالدين معاً؛ فكل منهما والد باعتباره. ودلَّ الحديث أن مرضاة الوالدين سبب ومدعاة لمرضاة الربِّ "جل جلاله"، وأن سخط الوالدين سبب ومدعاة لسخط الرب "سبحانه وتعالى". 

وفي رواية عنه: "رضا الربِّ تباركَ وتعالى في رضا الوالدين، وسخَطُ الله تباركَ وتعالى في سخَطِ الوالدين"[[١٤]].

[١٤] أخرجه البزار، صحيح الترغيب: ٢٥٠٣. قلت: هذه الرواية تقوي المعنى المشار إليه آنفاً في الرواية السابقة؛ من أن كلمة الوالد، تُطلق أحياناً ويُراد منها الوالدان معاً.

عن ابن عمر "رضي الله عنهما"، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"، قال: "خرجَ ثلاثةٌ يمشون، فأصابهم المطرُ، فدخلوا في غارٍ في جبل فانحطَّت عليهم صخرةٌ.قال: فقال بعضُهم لبعضٍ: ادعوا اللهَ بأفضل عملٍ عملتمُوه. فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبَوان؛ شيخان كبيران، فكنت أخرجُ فأرعى، ثم أجيء فأحلِبُ، فأجيء بالحِلاب، فآتي به أبوَيَّ فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي. فاحتُبستُ ليلةً، فجئتُ فإذا هما نائمان. قال: فكرهتُ أن أوقظَهُما والصُّبية يتضاغَون عند رجلي[[١]]، فلم يزل ذلك دَأبي ودأبَهُما حتى طلعَ الفجرُ. اللهمَّ إن كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرُج عنا فُرجَةً نرى منها السماء، قال: ففُرج عنهم .." متفق عليه.

[١] مَن شدة الجوع، يسألونه أن يسقيهم فلا يفعل إيثاراً لوالديه.

عن عُروةَ "رضي الله عنه"، أن أبا هريرة "رضي الله عنه" أبصَرَ رجلين، فقال لأحدهما: ما هذا منكَ؟ فقال: أبي، فقال: "لا تُسمِّهِ باسمهِ، ولا تمشِ أمامَه، ولا تجلِسْ قبلَه"[[١]].

[١] صحيح الأدب المفرد: ٣٢.

وعن سهل بن سعد "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا يجلِسُ الرجلُ بين الرجلِ وابنه في المجلس"[[٢]].

[٢] أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة: ٣٥٥٦. قلت: لعل الحكمة من منع الرجل أن يجلس بين الرجل وابنه في المجلس؛ احتمال حاجة الوالد ولدَهُ في شيء، فيكون جلوس الرجل بينهما حائل يمنع من إيصال حاجة الوالد إلى ولده بسهولة ومن دون نوع حرج. ويُقال كذلك: أن جلوس الولد بجوار والده أطيب واحب إلى نفس الوالد .. والنبي "صلى الله عليه وسلم" أراد أن يُراعي ذلك، والله تعالى أعلم.

عن ابن عمر "رضي الله عنهما"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إن أبَرَّ البِرِّ أن يصلَ الرجلُ أهلَ ودِّ أبيه، بعد أن يُولِّي الأبُ"[[١]].

[١] رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، صحيح الجامع الصغير: ١٥٢٥. " أهل ودّه"؛ أي أخلاؤه وأصحابه. وقوله " بعد أن يُولِّي"؛ أي بعد أن يموت.

وعن أبي بردة "رضي الله عنه" قال: قدمتُ المدينةَ، فأتاني عبدُ الله بنُ عمرَ "رضي الله عنهما"، فقال: أتدري لِمَ أتيتُكَ؟ قال: قلت: لا، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "من أحبَّ أن يصلَ أباهُ في قبره، فليصل إخوانَ أبيه بعدَه"، وإنه كان بين أبي عُمرَ وبين أبيكَ إخاءٌ وودٌّ، فأحببتُ أن أصِلَ ذلك[[٢]].

[٢] رواه ابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب: ٢٥٠٦.

وعن أنس "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "من البرِّ أن تصلَ صديقَ أبيك"[[٣]].

[٣] رواه الطبراني في الأوسط، صحيح الجامع الصغير: ٥٩٠١.

وعن أبي أُسيد "رضي الله عنه" قال: أتى رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" رجلٌ من بني سلمَة، وأنا عنده، فقال: يا رسولَ الله، إن أبوَيَّ قد هلَكا، فهل بقي لي بعد موتها من بِرّهما شيءٌ؟ قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "نعم؛ الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهودِهما من بعدِهما، وإكرامُ صديقهما، وصِلَةُ رحمهما التي لا رحمَ لك إلا من قِبَلِهما". قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسولَ الله وأطيبَهُ؟ قال: "فاعمل به"[[٤]].

[٤] رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم في المستدرك: ٤/١٥٥، ووافقه الذهبي.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: "تُرفَع للميتِ بعد موته درجَتُه، فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيُقال: ولدُكَ استغفرَ لك"[[٥]].

[٥]  صحيح الأدب المفرد: ٢٧.

وعنه، أن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطَعَ عنه عمَلُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" مسلم.

وعن ابن عباس "رضي الله عنهما"، أنَّ رجلاً قال: يا رسولَ الله! إنَّ أُمِّي توفيت ولم توصِ، أفينفعها أن أتصدَّقَ عنها؟ قال: "نعم"[[٦]].

[٦] صحيح الأدب المفرد: ٣٠. قلت: ينفعها لأنه من كسبها وسعيها، وآثارها .. ومثل هذا لا يُقال للبعيد أو الغريب، أنك لو تصدقت عن ميت فصدقتك تصله، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} المدثر:٣٨. وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} غافر:١٧. وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} النجم:٣٩. إلا إذا كان هذا البعيد أثر من آثار الميت، كمن يكون سبباً في هداية الناس، فيلحقه أجرهم، وأجر أعمالهم بعد موته، سواء خصوه بالذكر أو لم يخصوه، كما في الحديث: "من أحيا سنةً من سنتي فعَمِل بها الناسُ كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً "[ صحيح سنن ابن ماجه: ١٧٣]. وقال "صلى الله عليه وسلم": "مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجرِ مِثلُ أجورِ من اتَّبَعَهُ لا يَنقُصُ ذلك من أجورِهم شيئاً " مسلم.

عن ابن عمر "رضي الله عنهما"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا يحلُّ لرجلٍ أن يُعطي عطيَّةً أو يَهِبَ هِبةً فيرجعَ فيها، إلا الوالدُ فيما يُعطي ولَدَه، ومثَلُ الذي يُعطي العطيَّة ثم يرجع فيها، كمثل الكلب يأكلُ، فإذا شبعَ قاءَ ثم عادَ في قَيئهِ"[[١]].

[١] رواه أحمد، وأصحاب السنن، صحيح الجامع الصغير: ٧٦٥٥.

وعن عائشة "رضي الله عنها"، قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إن أطيبَ ما أكلَ الرجلُ من كسبه، وإنَّ ولَدَ الرجلِ من كسبه"[[٢]].

[٢] رواه ابن ماجه، والنسائي، صحيح سنن النسائي: ٤١٤٤.

وعنها، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "ولدُ الرجلِ من كسبه، من أطيبِ كسبه، فكلُوا من أموالِكُم"[[٣]].

[٣] صحيح سنن  أبي داود: ٣٠١٤.

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنهما"، أن رجلاً أتى النبي "صلى الله عليه وسلم"، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ لي مالاً وولداً، وإنَّ والدي يحتاجُ مالي؟ قال: "أنتَ ومالُك لوالدك؛ إن أولادَكُم من أطيبِ كسبِكُم، فكلوا من كسبِ أولادِكُم"[[٤]].

[٤] رواه ابن ماجه، وأبو داود، صحيح سنن أبي داود: ٣٠١٥.

وعن عائِشةَ "رضي الله عنها"، قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إنَّ أولادَكُم هِبةُ اللهِ لكم {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، فهم وأموالُهم لكم إذا احتجتُم إليها"[[٥]].

[٥] أخرجه الحاكم وغيره، السلسلة الصحيحة: ٢٥٦٤. قلت: الحديث أفاد زيادة طيبة؛ وهي أن مال البنت كمال الولد لا فرق، فكما أن الولد وماله من كسب أبويه ولهما أن يأخذا من ماله إذا كانا بحاجة إليه، كذلك البنت فهي ومالها من كسبهما .. ولهما الحق في مالها ـ إن كانت من ذوي المال ـ كما لهما الحق في مال الولد .. وهذا بخلاف الخطأ السائد عند كثير من الناس من أن الولد فقط ـ دون البنت! ـ هو من كسب أبيه، وللوالد الحق في أن يأخذ من ماله ـ دون البنت! ـ إن كان بحاجة إليه!     قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: في الحديث فائدة فقهية هامة قد لا تجدها في غيره؛ وهي أنه يبين أن الحديث المشهور: "أنت ومالك لأبيك " ليس على إطلاقه؛ بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا؛ وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه ا- هـ.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من سَعى على والديه؛ ففي سبيلِ الله، ومن سعى على عِيالِه ففي سبيلِ الله، ومن سعى على نفسه ليُعِفَّها؛ ففي سبيل الله، ومن سعى على التكاثُر؛ ففي سبيل الشيطان، وفي رواية: الطاغوت"[[٦]].

[٦] أخرجه البزار، والطبراني، والبيهقي، السلسلة الصحيحة: ٣٢٤٨.

عن أسماء بنت أبي بكر الصديق "رضي الله عنهما"، قالت: قدِمَت عليَّ أُمي وهي مشركةٌ في عهدِ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، فاستفتيتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم"، قلت: قدمت علي أُمِّي وهي راغبةٌ[[١]]، أفأصِلُ أمي؟ قال: "نعم صِلي أُمَّك" متفق عليه.

[١] أي طامعة بما عندي من المال، وهي تريد شيئاً منه.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: مرَّ رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" على عبدِ الله بن أُبيِّ ابن سَلُول ـ رأس النفاق ـ  وهو في ظلِّ أجمَةٍ ـ أي شجرة ـ فقال: قد غبَّرَ علينا ابنُ أبي كَبشَةَ[[٢]]! فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: والذي أكرمَكَ وأنزَلَ عليكَ الكتاب!، إن شِئتَ لأتيتُكَ برأسه، فقال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "لا؛ ولكن بِرَّ أباكَ، وأحسِنْ صحبتَهُ"[[٣]].

[٢] كان المشركون ينسبون النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" إلى أبي كبشة، وهو رجل من خُزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وعبد الشِّعْرَى العَبورَ، فلما خالفهم النبي "صلى الله عليه وسلم" في عبادة الأوثان شبهوه به، وقيل: إنه كان جدُّ النبي "صلى الله عليه وسلم" من قِبل أمه، فأرادوا أنه نزَع في الشبه إليه. النهاية.

[٣] أخرج ابن حبان في صحيحه وغيره، السلسلة الصحيحة: ٣٢٢٣.

عن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، فقال: يا رسولَ الله من أحقُّ الناسِ بحسن صحابَتي؟ قال: "أمُّكَ". قال: ثم مَن؟ قال: "أمُّك". قال: ثم مَن؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوكَ" متفق عليه.

وعن معاوية بن جاهِمةَ "رضي الله عنه"، أن جاهِمةَ جاء إلى النبيِّ "صلى الله عليه وسلم"، فقال: يا رسولَ الله! أردتُ أن أغزو، وقد جئت أستشيرك؟ فقال: "هل لك من أمٍّ؟" قال: نعم. قال: "فالزمها؛ فإن الجنَّةَ عند رِجلِها"[[١]].

[١] رواه أحمد، والنسائي، والبيهقي في شعب الإيمان، قال الشيخ ناصر: إسناده جيد، مشكاة المصابيح:٤٩٣٩. والمراد بقوله: "إن الجنة عند رجلها، أو تحت أقدامها"؛ أي بتذللك، وتواضعك، وخدمتك لها، تنال رضاها، فتدخل بذلك الجنة .. وهذا الحديث وأمثاله ـ كما تقدم ـ ينبغي أن يُحمل على الجهاد الكفائي التطوعي الذي يُندب له .. بخلاف الجهاد الواجب المتعيِّن.

وفي رواية: "الزمها، فإنَّ الجنَّة تحتَ أقدامِها"[[٢]].

[٢] صحيح الجامع الصغير: ١٢٤٩.

وفي رواية: "الزَمْ رِجلَها، فثمَّ الجنَّة"[[٣]].

[٣] رواه ابن ماجه، صحيح الجامع الصغير: ١٢٤٨. معنى الحديث: حيث تلزم رضاها وخدمتها، وتتواضع لها تجد الجنة بذلك.

وفي رواية: فقال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "ألكَ والدان؟"، فقلت: نعم، قال: "الزمْهُما؛ فإن الجنَّة تحتَ أرجُلِهما"[[٤]].

[٤] رواه الطبراني، صحيح الترغيب: ٢٤٨٥.

وعن أبي أيوب "رضي الله عنه"، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "من فرَّق بين والدةٍ وولَدِها فرَّقَ اللهُ بينه وبين أحبَّتهِ يومَ القيامة"[[٥]].

[٥] رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، صحيح الجامع الصغير: ٦٤١٢. فيه: أن الأم هي الأحق بحضانة وليدها، لو حصل فراق بينها وبين زوجها.

وعن معاوية بن حيدة "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "أُمَّكَ، ثمَّ أُمَّك، ثم أمك، ثم أبَاك، ثمَّ الأقربَ فالأقرب"[[٦]].

[٦] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحكام، صحيح الجامع: ١٣٩٩.

وعن صعصعة المُجاشعي "رضي الله عنه"، أنَّ النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "أمَّك، وأبَاك، وأُختَك[[٧]] وأخاك، وأدناك أدناك"[[٨]].

[٧] فيه أن حق الأخت أوكد من حق الأخ وهي مقدمة عليه .. قلت: المرأة في الإسلام معزَّزة مكرَّمة مقدَّمة وهي بنت، وأخت، وزوجة، وأمٍّ .. وهي في جميع أطوار حياتها .. ومع ذلك قليل من النساء من يشكرن هذا المعروف، وهذا الإحسان .. فتراهنَّ يعرضن عما قسمه الله لهن من حق .. ويلتمسن حقوقهن المزيفة عند الذئاب والوحوش الآدمية .. دعاة حقوق وحرية المرأة، زعموا! 

[٨] رواه الطبراني، والحاكم، صحيح الجامع: ١٤٠٠.

وعن المِقدام بن مَعدي كَرِب "رضي الله عنه" أنه سمع رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "إنَّ اللهَ يُوصِيكم بأُمَّهاتِكم، ثمَّ يُوصيكم بأمهاتِكم، ثم يوصيكم بآبائِكم، ثم يُوصيكُم بالأقربِ فالأقرب"[[٩]].

[٩] صحيح الأدب المفرد: ٤٤.

وعن أبي بُردة "رضي الله عنه" أنه شَهد ابن عمر "رضي الله عنهما"، ورجلٌ يمانيَّ يطوفُ بالبيت، حملَ أُمَّه وراء ظهره، يقول: إنِّي لها بعيرُها المُذلَّلْ ..... إن أُذعِرَتْ رِكابُها[[١٠]] لم أُذْعَرْ ثم قال: يا ابنَ عمر! أتُراني جزيتُها ـ أي كافأتها حقها علي ـ؟ قال: لا؛ ولا بزفرةٍ واحدة[[١١]].

[١٠] أي إن اضطرب بعيرها ونفر، وهاج مذعوراً؛ وهو يريد أن يقول: أنه مركوب سهل لأمه لا يزعجها في شيء كما يمكن للبعير أن يُزعج راكبه.

[١١] صحيح الأدب المفرد: ٨. وقوله " ولا بزفرة واحدة"؛ أي لا، ولا بطلقة واحدة من طلقاتها وهي تلدك!

وعن أبي مُرَّة، مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالب "رضي الله عنها"، أنه ركبَ مع أبي هريرة "رضي الله عنه" إلى أرضه بـ" العقيق"، فإذا دخَلَ أرضَه صاحَ بأعلى صوته: عليكِ السلامُ ورحمة الله وبركاته يا أُمَّاه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رَحمكِ الله كما ربيتِني صَغِيراً. فتقول: يا بُنيَّ! وأنتَ؛ فجزاك اللهُ خيراً ورَضيَ عنكَ كما بَرَرْتني كبيراً[[١٢]].

[١٢] صحيح الأدب المفرد: ١١.

عن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من سَرَّهُ أن يُعظِمَ اللهُ رزقَه، وأن يمدَّ في أجلِه، فليصِل رحمه" متفق عليه[[١]].

[١] وأقرب الرحم إلى الرجل بالتسلسل: والداه، ثم بناته وأبناؤه، ثم أخواته وإخوانه، ثم أقرباؤه من جهة الأب، ثم الأقارب من جهة الأم. 

وعن سلمان "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا يردُّ القضاءَ إلا الدعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلا البر"[[٢]].

[٢] رواه الترمذي، والحاكم، صحيح الجامع الصغير: ٧٦٨٧.

وعن أنس "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من سرَّه أن يُبسَطَ له في رزقه، ويُنسَأ[[٣]] في أثرِه، فليصِلْ رحمه"[[٤]].

[٣] أي يؤخر له في أجله وعمره.

[٤] صحيح سنن أبي داود: ١٤٨٥.

وعنه، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "مَن سرَّهُ أن يُمَدَّ له في عُمرِه، ويُزادُ في رزقه؛ فليُبرَّ والديه، وليصِلْ رحمَه"[[٥]].

[٥] رواه أحمد، صحيح الترغيب: ٢٤٨٨.

وعن أبي بكرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إن أعجلَ الطاعةِ ثواباً لصلَةُ الرحم، حتى أن أهل البيت ليكونوا فجَرَةً، فتنموا أموالَهم، ويكثُر عددُهم إذا تواصلوا"[[٦]].

[٦] رواه الطبراني، صحيح الجامع الصغير: ٥٧٠٥. هذه الأحاديث قد تُشكِل على البعض، فيقول قائل: كيف يوفق بين أن عمر الإنسان مكتوب قبل أن يخلق، وأن أجله لا يتقدم ولا يتأخر وبين كونه يزداد بالبر وصلة الأرحام؟    الجواب: أنه لا تعارض بين الأمرين؛ فإن الذي يصل رحمه يكون في علم الله قبل أن يُخلَق أنه سيصل رحمه، فيُقدر الله له زيادة في العمر قبل أن يُخلَق .. هذه الزيادة ما كانت ستكون لولا أنه سيكون ممن يصلون الرحم.  

وعن سهل بن معاذ عن أبيه "رضي الله عنهما"، أ ن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "من برَّ والديه طوبى له، زادَ اللهُ في عُمره"[[٧]].

[٧] صححه الحاكم في المستدرك: ٤/١٥٤، ووافقه الذهبي. وقوله " منسأةٌ في الأثَرِ"؛ أي يُطيل في عمر الإنسان وأجله، وأثره في الحياة. وقوله " تعلموا من أنسابِكُم ما تصلونَ به أرحامَكُم"؛ لأن الجهل بالنسب .. مؤداه إلى الجهل بالرحم والأقارب الذين لهم حق الوصل، والإحسان .. فتُقطع بسبب ذلك الأرحام .. وما أكثر الذين يقطعون أرحامهم في هذا الزمان لهذا السبب .. حيث بتنا نعيش زماناً لا يعرف المرء من نسبه إلا أمه وأبيه، وأخته وأخيه .. وفي كثير من الأحيان لو سُئل عن اسم جده أو جد أبيه .. أو أحفاد أعمامه وعماته .. تراه لا يعرفهم .. ولا يعرف أسماءهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "تعلموا من أنسابِكُم ما تصلونَ به أرحامَكُم؛ فإنَّ صِلَةَ الرحم محبَّةٌ في الأهلِ، مَثراةٌ في المالِ، منسأةٌ في الأثَرِ"[[٨]].

[٨] أخرجه الترمذي، صحيح الترغيب: ٢٥٢٠.

وعنه، أن رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فليَصِلْ رحمَهُ" متفق عليه.

عن أبي ذرٍّ "رضي الله عنه" قال: "أوصاني خليلي "صلى الله عليه وسلم" أن أصِلَ رحمي وإن أدبَرَت"[[١]].

[١] أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٢٥.

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنهما"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "ليس الواصِلُ بالمكافئ[[٢]]، ولكنَّ الواصِلَ الذي إذا قُطِعت رَحِمُه وصَلَها" البخاري.

[٢] أي ليس الواصل من يصل من وصله؛ فيقابل وصله بوصل، وإنما الواصل من يصل من قطعه!

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه" أن رجلاً قال: يا رسولَ الله! إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عليهم ويجهلون عليَّ؟ فقال "صلى الله عليه وسلم": "وإن كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهم الملَّ ـ وهو الرماد الحار ـ ولا يزالُ من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك" مسلم.

وعن أم كلثوم "رضي الله عنها"، أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "أفضلُ الصدقةِ الصَّدقةُ على ذي الرَّحِمِ الكاشِح"[[٣]].

[٣] أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٣٥. والرحم الكاشح: هو الرحم اللئيم الحقود الذي يُضمر العداوة في القلب، وكون الصدقة عليه من أفضل الصدقات؛ لأن في التصدق عليه وصل للرحم من جهة، ومن جهة أخرى فيه معالجة لمرض قلبه وحقده؛ إذ الصدقات في الغالب تذهب ما في قلب المتصدق عليه من العداوة والبغضاء، فيتحقق بهذا الوصل حسنتان: حسنة الوصل، وحسنة مداوات وعلاج الموصول من مرضه.

وعن عُقبة بن عامر "رضي الله عنه"، قال: لقيتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" فأخذتُ بيده، فقلتُ: يا رسولَ الله! أخبرني بفواضِل الأعمالِ؟ قال: "يا عُقبةُ! صِلْ من قطعكَ، وأعطِ من حرمَكَ، وأعرض عمَّن ظلمكَ"[[٤]].

[٤] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٣٦.

وعن ابن عبَّاس "رضي الله عنهما"، أنه قال: "احفَظُوا أنسابَكُم، تصلوا أرحامَكُم؛ فإنه لا بُعْدَ بالرَّحِمِ إذا قَرُبَتْ وإن كانت بعيدةً، ولا قُرْبَ بها إذا بَعُدَتْ وإن كانت قريبةً، وكلُّ رحمٍ آتيةٌ يومَ القيامةِ أمامَ صاحبها؛ تَشهدُ له بصلةٍ إن كان وصَلَها، وعليه بقطِعةٍ إن كان قطَعَها"[[٥]].

[٥] صحيح الأدب المفرد: ٥٤.

وعن سويد بن عامر الأنصاري "رضي الله عنه" مرفوعاً: "بُلُّوا أرحامَكُم ولو بالسَّلام"[[٦]].

[٦] أخرجه وكيع في الزهد، السلسلة الصحيحة: ١٧٧٧. قلت: أقل معاني الوصل السلام، وهو متيسر لمن شاء مهما كان مسكنه بعيداً عن رحمه؛ فلا عُذر لقاطع الرحم مع توفر وسائل الاتصالات الكثيرة والمتنوعة والسهلة .. والتي تُقرب البعيد ـ في لحظات ـ مهما كان بعيداً!

عن جرير بن عبد الله "رضي الله عنه"، عن النبيِّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "ما من ذِي رَحِمٍ يأتي رَحِمَهُ فيسألُه فضلاً أعطاهُ اللهُ إيَّاه فيبخلُ عليه؛ إلا أُخرِجَ له يومَ القيامَةِ من جهنَّم حيَّةٌ يُقالُ لها: شَجَاعٌ يتلمَّظُ؛ فيُطوَّقُ به"[[١]].

[١] أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة: ٢٥٤٨.

عن ابن عمر "رضي الله عنهما"، قال: أتى النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" رجلٌ، فقال: إنِّي أذنبتُ ذنباً عظيماً!، فهلْ لي من توبةٍ؟ فقال "صلى الله عليه وسلم": "هل لك من أُمٍّ؟". قال: لا، قال: "فهل لك من خالةٍ؟". قال: نعم، قال: "فَبِرَّها"[[١]].

[١] أخرجه الترمذي وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٠٤.

وعن ابن عباس "رضي الله عنهما"، أنه أتاهُ رجلٌ، فقال: إنِّي خطَبتُ امرأةً فأبَت أن تَنْكحَني، وخطبها غيري فأحبَّت أن تَنكِحَهُ، فغِرتُ عليها فقتلتها، فه | ل لي من توبة؟ قال: أُمُّكَ حيَّة؟! قال: لا، قال: تُبْ إلى الله "جل جلاله"، وتقرَّب إليه ما استطعت. قال عطاء بن يسار: فذهبتُ فسألتُ ابن عباس: لِمَ سألتَه عن حياة أُمِّه؟ فقال: إني لا أعلمُ عملاً أقربُ إلى الله "جل جلاله" من بِرِّ الوالدة[[٢]].

[٢] صحيح الأدب المفرد: ٤.

وعن طَيْسَلة بن ميَّاس "رضي الله عنه"، قال: كنت مع النَّجَدَات ـ قوم من الحرورية والخوارج ـ فأصبتُ ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر، فذكرتُ ذلك لابن عمر "رضي الله عنهما"، قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليسَت هذه من الكبائر؛ هُنَّ تِسعٌ: الإشراكُ بالله، وقتلُ النَّفسِ، والفرارُ من الزحفِ، وأكلُ مالِ اليتيم، وإلحادٌ في المسجد، والذي يستَسْخِر ـ من السخرية ـ، وبكاءُ الوالدين من العقوق!

قال لي ابنُ عمر: أتَفْرُقُ من النار، وتحبُّ أن تدخلَ الجنَّة؟ قلت: أي، والله! قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أُمِّي. قال: فوالله لو ألَنْتَ لها الكلامَ، وأطعمتها الطعامَ لتدخلَنَّ الجنَّة ما اجتَنَبْتَ الكبائِر[[٣]].

[٣] صحيح الأدب المفرد: ٦. قوله " وإلحاد في المسجد"؛ أي بغي وظلم يُمارس في المسجد، وهذا بخلاف ما وجدت له، وهو عبادة الله تعالى. ومن الإلحاد في المساجد أن يُعلن فيها عن الرايات والدعوات العصبية الجاهلية، والشركية الباطلة. قال ابن الأثير في النهاية: أصل الإلحاد الميل والعدول عن الشيء. ومنه حديث: "ولا يُلحَدُ في الحياة"؛ أي لا يجري منكم ميلٌ عن الحق ما دمتم أحياءا- هـ.

عن أبي بكرة نُفَيع بن الحارث "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ألا أُنبئكم بأكبرِ الكبائر؟" ـ ثلاثاً ـ قلنا: بلى يا رسولَ الله. قال: "الإشراكُ بالله، وعقوقُ[[١]] الوالدين"، وكان مُتكئاً فجلسَ، فقال: "ألا وقولُ الزُّور، وشهادةُ الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليتَهُ سكَت" متفق عليه. 

[١] يقال عق والده يعقه عقوقاً فهو عاق، إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وهو ضد البر به، وأصله من العَقِّ: الشق والقطع، عن النهاية.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "إن الله تعالى خلق الخلقَ، حتى إذا فَرَغَ من خلقه، قامت الرَّحِمُ، فقال: مَهْ؟ قالت: هذا مقامُ العائِذ بكَ من القطيعة، قال: نعم؛ أما تَرضيَن أن أصِلَ من وصلَكِ، وأقطعَ من قطَعَكِ؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لكِ" متفق عليه.

وعنه، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "إنَّ الرحِمَ شُجنةٌ تقول: يا ربِّ! إني قُطِعتُ، يا ربِّ! إنِّي أُسيء إليَّ، يا ربِّ! إني ظُلِمتُ، يا رب! يا رب! فيجيبُها: ألا ترضينَ أن أصِلَ من وصلَكِ، وأقطعَ من قطعَكِ؟!"[[٢]].

[٢] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٣٠. 

وعن سعيد بن زيد "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "إنَّ هذه الرحم شُجْنَةٌ من الرحمن "جل جلاله"، فمن قطعها حرَّم عليه الجنَّةَ"[[٣]].

[٣] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥٣٢. " شُجْنَةً من الرحمن"؛ أي قرابة مشتبكةٌ كاشتباك العُروق، شبهه بذلك مجازاً واتساعاً. ومنه " الحديث ذو شُجون"؛ أي ذو شُعَب وامتساكٍ بعضه ببعض. " النهاية".

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنهما"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "لا يدخلُ الجنَّةَ منَّانٌ، ولا عَاقٌّ، ولا مدمنُ خمر"[[٤]].

[٤] صحيح سنن النسائي: ٥٢٤١.

وعن عبد الرحمن بن عوف "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "قال الله: أنا الرحمنُ، وهي الرَّحِمُ، شقَقتُ لها اسماً من اسمي، من وَصَلَها وصَلْتُه ومن قطَعَها بَتَتْهُ"[[٥]].

[٥] بتتُّه؛ أي قطعته. والحديث رواه أبو داود، صحيح سنن أبي داود: ١٤٨٦.

وعن جُبير بن مُطعِم "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "لا يدخلُ الجنَّةَ قاطعُ رحم" متفق عليه.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "إنَّ أعمال بني آدمَ تُعرَضُ كلَّ خميسٍ ليلة الجُمُعَةَ، فلا يُقبَلُ عمَلُ قاطِعِ رَحِمٍ"[[٦]].

[٦] أخرجه أحمد، صحيح الترغيب: ٢٥٣٨.

وعن عائشة "رضي الله عنها"، قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "الرَّحِمُ مُعلَّقَةٌ بالعرشِ تقول: من وصلَني وصلَهُ اللهُ، ومَن قَطَعني قطعَهُ الله" متفق عليه.

وعن المغيرة بن شُعبة "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم"، قال: "إن اللهَ تعالى حرَّم عليكم عقوقَ الأمَّهات" متفق عليه[[٧]].

[٧] قال ابن الأثير في النهاية: خصَّ الأمهات وإن كان عقوق الآباء وغيرهم من ذوي الحقوق عظيماً، فلعقوق الأمهات مزيَّةٌ في القبح.

وعن ابن عمر "رضي الله عنهما"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ "جل جلاله" إليهم يومَ القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأةُ المترجِّلةُ، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والمدمنُ على الخمر، والمنَّانُ بما أعطى"[[٨]].

[٨] صحيح سنن النسائي: ٢٤٠٢. " والديّوث"؛ هو الذي لا يغار على عِرضه وأهله. ومن صور الدياثة أن تخرج المرأة من البيت ولا يعرف وليها إلى أين خرجت، أو أن تُرسَل للعمل مع الرجال في أجواء الاختلاط، والابتذال، والخضوع من أجل أن تأتيه بالمال .. أو أن تُجبر على خلع حجابها أو التخفيف منه، وإبداء بعض زينتها من أجل أن تجد لنفسها وظيفة بين الرجال .. وما أكثر من يفعل ذلك في زماننا!

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنهما"، أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "رِضا الرَّبِّ في رِضا الوالدِ، وسخطُ الربِّ في سخَطِ الوالدِ"[[٩]].

[٩] رواه الترمذي، والحاكم، صحيح الجامع الصغير: ٣٥٠٦.

وعنه، أن النبيَّ "صلى الله عليه وسلم" قال: "رِضَا الربِّ في رضا الوالدين، وسُخْطُه في سُخْطِهما"[[١٠]].

[١٠] رواه الطبراني، صحيح الجامع: ٣٥٠٧.

وعن ابن عباس "رضي الله عنهما"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "مَلعونٌ[[١١]]من سَبَّ أباهُ، ملعونٌ من سَبَّ أمَّه، ملعونٌ من ذَبحَ لغير الله"[[١٢]].

[١١] اللعن: هو الطرد من رحمة الله تعالى، وقد خاب وخسر من يُطرد من رحمة الله .. ومن صور لعن الولد لأبيه، أن يتسبب ـ بغير حق ـ باللعن لأبيه؛ كأن يلعن أبا الرجل، فيلعن الآخر أباه .. أو أن يتسبب في أذى الناس وظلمهم .. فيلعنه الناسُ ويلعنوا أباه معه، ونحو ذلك!

[١٢] رواه احمد، صحيح الجامع الصغير: ٥٨٩١.

وعن عبد الله بن عمرو "رضي الله عنهما"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "مِن الكبائر شَتمُ الرجلِ والديه: يَسبُّ أبا الرجلِ، فيَسُبَّ أباه، ويَسبُّ أمَّه، فيسبَّ أمَّه" متفق عليه.

وعن أبي بكرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "من ادَّعى إلى غيرِ أبيه وهو يعلم، فالجنةُ عليه حرامٌ" متفق عليه.

وعن عائشة "رضي الله عنها"، قالت: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "أعظمُ الناسِ فريةً اثنان: شاعرٌ يهجو القبيلة بأسرها، ورجلٌ انتقى من أبيه"[[١٣]].

[١٣]  رواه ابن ماجه، صحيح الجامع: ١٠٦٦.

وعن عمرو بن مرة الجهني "رضي الله عنه" قال: جاء رجلٌ إلى النبي "صلى الله عليه وسلم"، فقال: يا رسولَ الله! شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسولُ الله، وصليتُ الخمسَ، وأديتُ زكاةَ مالي، وصُمتُ رمَضانَ؟ فقال النبيُّ "صلى الله عليه وسلم": "من ماتَ على هذا كان مع النبيينَ والصِّديقينَ والشُّهداءِ يوم القيامة هكذا ـ ونصبَ أُصبعيه ـ ما لمْ يَعِقَّ والِديه"[[١٤]].

[١٤] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب: ٢٥١٥.

عن أبي بكرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ما من ذنبٍ أجدرُ أن يُعجِّلَ اللهُ تعالى لصاحبه العقوبَة في الدنيا، مع ما يدِّخرُه في الآخرة من قطيعةِ الرَّحم، والخيانةِ، والكذب"[[١]].

[١] رواه الطبراني، صحيح الجامع: ٥٧٠٥.

وعن القاسم بن عبد الرحمن "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم"، قال: "من قَطَعَ رحماً، أو حلَفَ على يمين فاجِرةٍ، رأى وبالَه قبل أن يموت"[[٢]].

[٢] صحيح الجامع الصغير: ٦٤٧٥.

وعن أنس "رضي الله عنه"، قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": "بابانِ مُعجَّلان عُقوبتهُما في الدنيا: البغي، والعُقوق"[[٣]].

[٣] رواه الحاكم في صحيحه، السلسلة الصحيحة: ١١٢٠.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه"، قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ثلاثُ دعواتٍ مُستجابات لهنَّ، لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ المظلوم، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ الوالدين على ولدهما"[[٤]].

[٤] صحيح الأدب المفرد: ٢٤. فاحرص يا عبد الله على أن يكون دعاء الوالدين لك لا عليك، فكم من ولدٍ انقلبت عليه دنياه العامرة إلى دمار وخراب وزوال ونكد بسبب دعاء الوالدين أو أحدهما عليه .. فدعاء الوالدين على ولديهما يمحق الأعمار، ويزيل الأرزاق .. ويُخرِّب الديار .. فالحذر الحذر يا من تُطاوعه نفسه على العقوق!

وعنه قال: قال رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم": "ليسَ شيءٌ أُطيعَ اللهُ فيه أعجَلَ ثواباً من صِلَة الرحم، وليسَ شيءٌ أعجَلَ عقاباً من البغي، وقطيعةِ الرَّحمِ، واليمينُ الفاجرةُ تدَعُ الديارَ بلاقِعَ"[[٥]].

[٥] أخرجه البيهقي وغيره، السلسلة الصحيحة: ٩٧٨. وقوله: "تدَعُ الديارَ بلاقِعَ"؛ البلاقع جمع بَلْقَعَ وبلْقَعةَ؛ وهي الأرض القفْرُ التي لا شيء بها؛ يُريد أن الحالف بها يفتقر ويذهبُ ما في بيته من الرزق، وقيل هو أن يفرقَ اللهُ شملَه، ويُغيِّر عليه ما أولاه من نعمة. "النهاية".

وعن أبي هُريرة "رضي الله عنه"، عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: "لَمْ يَتَكَلَّمْ في المهدِ إلا ثَلاثة: عِيسى ابنُ مريم، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكان جُرَيْج رَجُلاً عابِداً، فاتَّخَذَ صَومَعةً، فَكانَ فِيها، فأتَتهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيْج! فقال: يا رَبِّ! أُمِّي وَصلاتي، فَأَقبَلَ على صلاتِهِ، فانصَرَفَتْ، فلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أَتتهُ وَهوَ يُصَلِّي، فقالت: يَا جُرَيْجُ! فقال: يَا رَبِّ! أُمي وَصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرَفَت، فَلَما كانَ مِنَ الغَدِ أَتته فقالت: يا جُريْجُ! فقال: يا رَبِّ! أُمي وصلاتي، فأقبل على صلاته[[٦]]

فقالت: اللهم! لا تُمِتْهُ حتى يَنظرَ إلى وجوه المُومِساتِ، فَتَذاكر بنو إسرائيل جُرَيْجاً وعبادته، وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِها، فقالت: إن شئتم لأفتِنَنَّهُ لَكُم، قال: فَتَعَرَّضت له فلم يَلتفتْ إِليها، فأَتت راعِياً كانَ يأوي إلى صَومَعَتِه، فأَمكَنَتهُ مِن نَفسِها، فَوَقَعَ عَلَيها، فَحَمَلَتْ، فَلَما وَلَدَتْ، قالت: هُوَ مِن جُرَيْجٍ! فأتوه فاستنزلوه وهَدَموا صَومعَته وجَعَلوا يَضرِبونَهُ، فقالَ: ما شأنُكُم؟ قالوا: زَنَيْتَ بِهذه البَغِيِّ، فَوَلَدَت مِنْكَ، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتى أُصَلي، فَصلى، فلمَّا انصرف أتى بالصبي فَطَعَن في بَطنِهِ، وقال: يا غلامُ! مَن أبوك؟ قال: فُلانٌ الرَّاعي، قال: فأقبلوا على جُريج يُقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نَبني لك صَومَعَتك من ذهبٍ، قال: لا؛ أَعيدوها من طينٍ كما كانت، ففعلوا" مسلم.

[٦] فيه أن تلبية نداء الأم ـ وهو فرض ـ مقدم على صلاة التنفل، ولا يُقدَّم فرض الصلاة على فرض تلبية نداء الأم إلا إذا خيف فوات وقت الفرض.

وعن أبي هريرة "رضي الله عنه" أنه قال: "كان جُرَيْجٌ يتعبَّدُ في صومعةٍ، فجاءت أُمُهُ ـ قال حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَاَ أَبو رافعٍ صِفَةَ أبي هريرة لِصِفةِ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أُمَّهُ حينَ دعَتْهُ، كيف جَعَلَت كَفَّها فوق حَاجِبِها، ثم رفَعَت رأسها إليهِ تَدعوهُ ـ فقالت: يا جُرَيْجُ! أَنا أُمُّكَ، كَلِّمنِي، فَصادَفَتهُ يُصَلِّي، فَقال: اللهمَّ! أُمِّي وصلاتي، قال: فاختارَ صَلاتَهُ، فَرَجَعت ثُمَّ عادَتْ فِي الثانية، فقالت: يا جُرَيْجُ! أَنا أُمُّك، فَكَلِّمني، قال: اللهم! أُمي وَصَلاتي، فاختار صَلاتَهُ، فقالت: اللهم! إنَّ هذا جُريْجٌ؛ وهو ابني، وإني كَلَّمْتُهُ فأَبى أن يُكَلِّمَني، اللهمَّ! فلا تُمِتْهُ حتى تُريهِ المُومِسَات. قال: وَلو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لَفُتِن.

قال: وكان راعي ضأنٍ يَأوي إلى دَيْرِه، قال: فَخَرَجت امرأةٌ من القرية فوقعَ عليها الراعي، فحَمَلَت فَوَلَدَت غلاماً، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: مِن صاحِبِ هذا الدَّيرِ، قال: فجاءوا بفؤوسهم وَمَسَاحِيهِمْ، فَنَادَوه فَصادفوه يُصلي، فلم يُكَلِمْهُم، قال: فأخذوا يهدمون دَيْرَه، فلما رأى ذلك نَزَلَ إليهم، فقالوا له: سَلْ هذه، قال: فتبسَّمَ ثم مَسحَ رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضَّأن، فلما سَمِعوا ذلك منه قالوا: نبني ما هدمنا من دَيرك بالذهب والفضة، قال: لا، ولكن أعيدوه تراباً كما كان، ثم عَلاهُ" مسلم.

وفي رواية عند البخاري في الأدب المفرد: "ثم انطُلِق به؛ فمُرَّ به على المومِسَات، فرآهُنَّ فتبسَّمَ ... قال الملِك: فما الذي تبسَّمتَ؟ قال: أمراً عَرفتُه؛ أدركتني دعوةُ أُمِّي، ثم أخبرهم".

وعن العوَّام بن حَوشَب "رضي الله عنه" قال: نزلتُ مرةً حيَّاً وإلى جانبِ الحيِّ مقبرةٌ، فلما كان بعدَ العصر انشقَّ فيها قبرٌ، فخرجَ رجلٌ رأسُه رأسُ الحمار، وجسدُه جَسدُ إنسانٍ، فنهقَ ثلاثَ نهقاتٍ ثم انطبقَ عليه القبرُ، فإذا عَجوزٌ تَغزلُ شَعراً أو صوفاً، فقالت امرأةٌ: ترى تلكَ العجوز؟ قلتُ: ما لها؟ قالت: تلك أمُّ هذا، قلتُ: وما كان قصَّتُه؟ قالت: كان يشربُ الخمرَ، فإذا راحَ، تقول له أمُّه: يا بُني اتقِ الله، إلى متى تَشرَبُ هذه الخمرَ؟! فيقول لها: إنما أنتِ تنهقين كما ينهقُ الحمارُ! قالت: فمات بعد العصر. قالت: فهو ينشقُّ عنه القبرُ بعد العصر كلَّ يومٍ فينهقُ ثلاثَ نهَقَاتٍ ثم ينطبقُ عليه القبرُ[[٧]].

[٧] رواه الأصبهاني، وقال: حدَّث به أبو العباس الأصم إملاءً بنيسابور بمشهد من الحفَّاظ فلم ينكروه، صحيح الترغيب: ٢٥١٧.

عن ابن عمر "رضي الله عنهما"، قال: كانت تحتي امرأة وكنت أُحِبُّها، وكان عمر "رضي الله عنه" يكرَهُها، فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمرُ "رضي الله عنه" النبيَّ "صلى الله عليه وسلم"، فذكرَ ذلك له، فقال النبي "صلى الله عليه وسلم": "طلِّقها"[[١]].

[١] رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وعن أبي الدرداء "رضي الله عنه"، أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأةً وإن أمي تأمُرني بطلاقها؟ فقال سمعتُ رسولَ الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "الوالِدُ أوسَطُ أبوابِ الجنة"، فإن شئتَ فأضعْ ذلك الباب أو احفظه[[٢]].

[٢] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. قلت: فيه أن كلمة " الوالد " الواردة في الحديث تُطلق وتُحمل على الوالدين معاً، الوالد والوالدة.

وعن معاذ بن جبل "رضي الله عنه"، قال: أوصاني رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم"، بعشر كلمات، قال: "لا تُشرك بالله شيئاً وإن قُتِّلتَ وحُرِّقتَ، ولا تعصي والديك وإن أمَراك أن تخرجَ من أهلِكَ ومالِك ..."[[٣]].

[٣] رواه أحمد، والطبراني، صحيح الترغيب: ٥٦٩.

وعن أميمة مولاةِ رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم"، قالت: كنتُ أصبُّ على رسولِ الله "صلى الله عليه وسلم" وضوءَه، فدخل رجلٌ فقال: أوصني، فقال: "لا تُشرِك بالله شيئاً وإن قُطِّعت وحُرِّقتَ بالنار، ولا تَعصي والديك، وإن أمراك أن تخلَّى من أهلِك ودنياك فتخلَّ .."[[٤]].

[٤] رواه الطبراني، صحيح الترغيب: ٥٧٠.

نعوذُ بالله من سخطِه، ومن سخطِ الوالدين، ونسألُه تعالى أن يجعلنا ممن يصِلُون الرحم لا ممن يقطعونه .. إنه تعالى سميعٌ قريب. وصلى الله على محمدٍ النبيِّ الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.